تحولات جذرية في الاقتصاد العالمي والتجارة تتجاوز التعريفات
(البيان)-19/02/2025
يواصل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تهديداته بفرض رسوم جمركية جديدة، وهو ما يزعزع استقرار الأسواق المالية، ويثير حفيظة الدول الصديقة والمنافسة على حد سواء، لكن من المهم تذكر أن العديد من التغييرات، التي نشهدها اليوم في مجال التجارة العالمية وشبكات التوريد والإنتاج العالمية بدأت منذ فترة طويلة، وليست مرتبطة بشكل مباشر بسياسات الرئيس الأمريكي، والأهم من ذلك أن الاتجاهات الكبرى في الاقتصاد العالمي قد تختلف تماماً عما نتوقعه.
ولنأخذ مثالاً على ذلك ما يعرف بـ«الإنتاج القريب»، وهو توجه يقضي بنقل عمليات الإنتاج إلى دول قريبة جغرافياً، ونلاحظ هذا التوجه بوضوح في أمريكا الشمالية.
حيث أدت العلاقات التجارية المتنامية بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا خلال السنوات الأخيرة إلى تقليل اعتمادها على الصين (وهذا ما يجعلنا نتساءل عن سبب رغبة الرئيس ترامب في تعطيل هذه العلاقة الناجحة)، لكن الصورة العالمية مختلفة تماماً.
فوفقاً لدراسة حديثة أجراها معهد ماكينزي العالمي فإن متوسط المسافة الجغرافية للتجارة العالمية قد ازداد خلال السنوات العشر الماضية بمعدل 10 كيلو مترات سنوياً، حتى وصل متوسط المسافة التي يقطعها دولار واحد من التجارية العالمية إلى حوالي 5200 كيلومتر.
ويعود السبب في ذلك إلى أن استراتيجية نقل الإنتاج إلى دول صديقة – وهي توجه للشركات لنقل إنتاجها إلى دول حليفة سياسياً – لا تعني بالضرورة النقل إلى دول قريبة جغرافياً.
فمثلاً بينما نقلت الولايات المتحدة جزءاً من سلاسل توريدها إلى المكسيك المجاورة، فقد نقلت جزءاً آخر إلى فيتنام البعيدة. وفي أوروبا نرى تحولاً من الاعتماد على الطاقة الروسية إلى استيراد الطاقة من الولايات المتحدة البعيدة – ولو مؤقتاً.
وفي الوقت نفسه تعمل دول مثل البرازيل والهند ودول رابطة آسيان على إقامة تحالفات تجارية جديدة حول العالم، ورغم أن تقليل الانبعاثات الكربونية يستلزم تقصير سلاسل الإمداد – لا سيما أن قطاع النقل والخدمات اللوجستية هو ثاني أكبر مصدر لانبعاثات الغازات الدفيئة بعد الصين – فإن التجارة العالمية تتوسع جغرافياً أكثر من أي وقت مضى.
على الجانب الآخر تتشكل تكتلات تجارية جديدة، وإن كان ذلك على أساس جيوسياسي وليس جغرافياً، فقد كشفت دراسة أجراها صندوق النقد الدولي في مايو الماضي عن ظهور ثلاث كتل تجارية رئيسية متوافقة سياسياً:
الأولى تدور في فلك الولايات المتحدة وتضم أوروبا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، والثانية تميل للصين وتشمل روسيا وبيلاروسيا وسوريا وإريتريا، أما الثالثة فتضم دولاً تتبنى سياسة الحياد مثل الهند ودول الآسيان، وغيرها من دول «الجنوب العالمي»، وهي دول تحاول الموازنة في علاقاتها مع القوى الكبرى.
وشهد حجم التجارة بين الدول غير المتوافقة سياسياً تراجعاً بنسبة 7% بين عامي 2017 و2024، بحسب معهد ماكينزي العالمي، ورغم أن التعريفات الجمركية والحروب التجارية لعبت دوراً في هذا التراجع، إلا أن السبب الرئيسي يعود إلى الصدمة، التي أحدثها اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا في 2022.
ورغم أن هذا التراجع يبدو أقل حدة من حالة التفكك التجاري، التي شهدها العالم إبان الحرب الباردة، إلا أن تأثيره الاقتصادي أكبر بكثير، حيث كانت التجارة العالمية في السلع تشكل 16% فقط من الناتج المحلي الإجمالي العالمي آنذاك، بينما تمثل اليوم 45% منه.
وتقول جيتا غوبيناث، النائب الأول لمدير صندوق النقد الدولي، إن الدول داخل الكتل التجارية كانت تسعى للتكامل فيما بينها خلال الحرب الباردة، بينما نراها اليوم تميل للانغلاق على نفسها.
ونرى هذا بوضوح في سلوك الولايات المتحدة، التي تهدد بفرض تعريفات جمركية على الدول نفسها، التي عززت علاقاتها الاقتصادية معها خلال السنوات السبع الماضية.
ولفهم طبيعة التغيرات الاقتصادية في أي دولة علينا تحليل كل قطاع صناعي على حدة، فعلى سبيل المثال قد يعتقد البعض أن الزيادة الكبيرة في واردات الولايات المتحدة من معدات النقل المكسيكية تعني انخفاضاً في الواردات من الصين، لكنها في الواقع تعكس تراجعاً في التجارة مع كندا.
وبالمثل فرغم انخفاض حجم التجارة المباشرة بين الولايات المتحدة والصين، إلا أن قيمة الواردات الأمريكية المعتمدة على الصين لم تتراجع بشكل كبير.
ويرجع ذلك جزئياً إلى أن المنتجات الصينية تمر الآن عبر دول وسيطة قبل وصولها إلى السوق الأمريكية، وكما هو معتاد في عالم التجارة العالمي فإن تتبع الواقع الحقيقي للتدفقات التجارية مهمة بالغة التعقيد.
وفي ظل هذا الواقع الجديد تتبنى الشركات استراتيجيات مختلفة للتكيف، فبدلاً من الانحياز لكتلة تجارية واحدة بدأت معظم الشركات في التحول إلى نموذج أعمال جديد يتضمن تكاليف إضافية، لكنه يتيح لها العمل في الكتل الثلاث، كما تبحث عن طرق لتقليل المخاطر الجيوسياسية في عملية تطوير المنتجات.
فمثلاً تتجه شركة يونيليفر العالمية إلى تقليل درجة تخصيص منتجاتها للأسواق المختلفة، وتفضل بدلاً من ذلك الاعتماد على مواصفات قياسية موحدة، مما يتيح لها نقل منتجاتها بسرعة من سوق إلى آخر عندما تتغير الظروف السياسية.
وتتجه العديد من الشركات إلى استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالمواقع المحتملة للاضطرابات التجارية، وأتمتة خطط العمل المعقدة لسلاسل التوريد.
وعلى سبيل المثال طورت شركة شنايدر إلكتريك الفرنسية نظاماً برمجياً متطوراً، أطلقت عليه اسم «برج المراقبة»، يقوم بمراقبة شبكة الموردين متعددة المستويات بأكملها، ويمكنه إعادة توجيه الطلبات فوراً إلى أجزاء مختلفة من الشبكة إذا كانت هناك شركة أو دولة قادرة على تلبيتها.
ورغم أن التعريفات الجمركية، التي يفرضها ترامب، وما قد يقابلها من تدابير مضادة، ستؤثر حتماً على شكل التجارة في السنوات القليلة المقبلة – حيث نرى بالفعل مسارعة من جانب العديد من الشركات الدولية للامتثال، وزيادة طاقتها الإنتاجية في الولايات المتحدة – إلا أن هناك تحولات أكبر ستستمر في التأثير على المشهد العالمي حتى بعد رحيل الإدارة الحالية.
وفي هذا السياق أعلنت الصين مؤخراً عن توجه لتسريع خططها الخاصة بفك الارتباط التكنولوجي، وهي خطط بدأتها في عام 2015، أي قبل انتخاب ترامب، وتوقع تقرير حديث صادر عن مجموعة بوسطن للاستشارات أن تنكمش التجارة الثنائية بين الغرب والصين بمقدار 221 مليار دولار بحلول عام 2033، بانخفاض نسبته 1.2%. وفي رأيي فإن العالم يبالغ في تقدير دور الولايات المتحدة وتأثيرها على ما يحدث فعلياً في التجارة العالمية، فالنموذج العالمي يتغير، سواء كان ترامب موجوداً أم لا.