تكاليف ضخمة لتخلي أمريكا عن النظام الاقتصادي العالمي
(البيان)-07/03/2025
أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منذ أيام قرارين بالغي الأهمية؛ الأول هو فرض تعريفات جمركية بنسبة 25% على كندا والمكسيك، و10% على الصين، والتي تضاف إلى 10% أخرى كان ترامب فرضها الشهر الماضي.
كما يتوقع أن يعلن الرئيس الأمريكي فرض تعريفات جمركية بنسبة 25% على واردات الاتحاد الأوروبي. هذه الاقتصادات الأربعة مجتمعة تمثل 61% من الواردات السلعية للولايات المتحدة.
أما القرار الثاني والأكثر أهمية، فهو تعليق المساعدات العسكرية لأوكرانيا، ما يضع البلاد أمام خيار صعب بين الاستسلام أو الهزيمة.
وهذه مجرد عينة من سلسلة من القرارات التي تصاحب الفترة الثانية للرئيس الأمريكي، لكن بالنسبة للعالم الخارجي، تعد هذه القرارات ذات تأثيرات كبيرة، لأنها قد تمثل نهاية التجارة الحرة المنظمة بقواعد بين العالم بأسره والدولة الأقوى، التي أنشأت هي نفسها هذا النظام. كما أن هذه القرارات تمثل تخلياً من جانب الولايات المتحدة عن تحالفات أساسية والتزامات راسخة.
لكن ترامب يرتكب خطأ جسيماً في كلتا الحالتين، بحسب إشارة موريس أوبستفيلد، كبير خبراء الاقتصاد السابق لدى صندوق النقد الدولي، الذي يلفت إلى أن العجز التجاري للولايات المتحدة لا يعود إلى غش ارتكبه الشركاء التجاريون، وإنما يرجع لإنفاق يزيد على الدخل.
ويوضح أن العامل الحاسم الأكبر في العجز التجاري للولايات المتحدة هو العجز المالي الفيدرالي الهائل الذي يبلغ نحو 6% من الناتج المحلي الإجمالي حالياً، لكن خطة مجلس الشيوخ، الذي يسيطر عليه الجمهوريون، هي جعل التخفيضات الضريبية التي أقرها ترامب عام 2017 دائمة بما يضمن استمرار هذا العجز لمدة طويلة كثيراً طالما أن الأسواق تموله. وفي ضوء ذلك، فإن محاولات سد هذا العجز المالي عن طريق التعريفات شأنها شأن محاولة تسطيح بالون منتفخ تماماً.
ولفهم الوضع، فإن ذلك يتطلب قدراً من المعرفة بالاقتصاد الكلي، بل إن الرئيس الأمريكي قال أيضاً: «لنكن صريحين، لقد تأسس الاتحاد الأوروبي لإفساد الأمور على الولايات المتحدة. هذا هو المقصد من وراء تأسيسه، ولقد أبلوا حسناً في هذا المجال». علاوة على ذلك، تحدث ترامب عن أوروبا، قائلاً: «إنهم لا يشترون سياراتنا، ولا منتجاتنا الزراعية. إنهم لا يشترون شيئاً تقريباً، ونحن نشتري منهم كل شيء».
وكلتا الشكويين سخيفة، فقد تأسس الاتحاد الأوروبي لتعزيز العلاقات الاقتصادية المزدهرة والتعاون السياسي في قارة دمرتها حربان عالميتان مروعتان. ولطالما أدركت الولايات المتحدة هذا الأمر وعملت على تشجيعه، لكن تلك الولايات المتحدة كانت مختلفة للغاية.
كذلك، وحسب تدوينة جيسبير رانغفيد، الخبير الاقتصادي الدنماركي، فإن ترامب ينظر حصراً إلى التجارة البينية في السلع، ويتجاهل التجارة في الخدمات والأرباح من رأس المال والعمالة، مع أن الدخل الذي تحصل عليه الولايات المتحدة من صادراتها من الخدمات إلى منطقة اليورو على الأقل والعوائد على رأس المال وأجور العمالة التي صدرتها إلى هناك يعوض عجزها مع التكتل في السلع، لذلك يقترب ميزان الحساب الجاري لمنطقة اليورو مع الولايات المتحدة بصفة عامة من الصفر.
وبالنسبة للمكسيك وكندا، ستكون التكاليف الاقتصادية الناجمة عن تلك التعريفات الجمركية باهظة، بما أن صادراتهما من السلع إلى الولايات المتحدة عام 2023 كانت تشكل 27% و21% من الناتج المحلي الإجمالي على الترتيب.
ولم تشكل صادرات الاتحاد الأوروبي من السلع إلى الولايات المتحدة إلا 2.9% من الناتج المحلي الإجمالي للتكتل في عام 2023، لذا فإن تداعيات فرض تعريفات جمركية قدرها 25% لن تكون كبيرة، ومع ذلك يظل الأمر شكلاً من أشكال شن الحرب الاقتصادية غير المبررة، وتنطوي، بكل تأكيد، على جهل اقتصادي. وسيكون لزاما على الاتحاد الأوروبي إعلان ردود فعل انتقامية، وبذلك سيحل ضرر دائم بالعلاقات العابرة للأطلسي.
إن الحرب التجارية، رغم سوئها، تتضاءل مقابل الفخ الذي نصبه الرئيس الأمريكي ونائبه لفولوديمير زيلينسكي في المكتب البيضاوي، وما أعقب ذلك من تعليق للمساعدات العسكرية لأوكرانيا. ربما كان الهدف من وراء ذلك هو إجبار زيلينسكي على توقيع اتفاق المعادن.
عموماً، سيكون لزاماً على أوروبا أن تنوء بعبء تأمين وسائل الدفاع عن نفسها وضمان ذلك لأوكرانيا. وقد كان فريدريش ميرز، المستشار الألماني القادم، محقاً حينما صرح بأن «أولويته القصوى تتمثل في تقوية ساعد أوروبا بأسرع ما يمكن، حتى يمكننا تحقيق الاستقلال عن الولايات المتحدة الأمريكية خطوة بخطوة»، لكن يجب اتخاذ هذه الخطوات على وجه السرعة.
وتتمثل إحدى تلك الخطوات في نقل أكثر من 200 مليار يورو من الاحتياطات الروسية المصادرة إلى أوكرانيا. وتتمثل خطوة أخرى في تعزيز البنيان الدفاعي للتكتل بالنظر إلى انهيار التزام الولايات المتحدة تجاه حلف «الناتو».
وتجدر الإشارة إلى أن الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى المملكة المتحدة، لديهما تعداد سكاني أكبر من روسيا بـ3.6 مرات، كما أن الناتج المحلي الإجمالي لكليهما يتجاوز الناتج الروسي بـ4.7 مرات، استناداً إلى القوة الشرائية، وبذلك لا تكمن المشكلة في الافتقار إلى الموارد البشرية أو الاقتصادية، إذ سيكون بإمكان أوروبا موازنة روسيا عسكرياً على المدى الطويل، وهناك احتمال كبير أن تتعاون القارة بصورة فعالة، لكن تكمن الصعوبة في المدى المتوسط، لعدم قدرة أوروبا على تصنيع بعض المعدات العسكرية الضرورية التي تعتمد عليها هي وأوكرانيا.
فهل سترفض الولايات المتحدة توريد مثل هذه الأسلحة إذا كان الأوروبيون سيشترونها؟ سيرقى رفض التوريد هذا إلى لحظة صدق. إن ترامب يشن حرباً اقتصادية وسياسية على حلفاء الولايات المتحدة والمعتمدين عليها، لكن انهيار الثقة الناجم عن ذلك لدى البلدان التي اعتادت تقاسم قيمها معها سيكون مكلفاً للغاية للولايات المتحدة هي أيضاً.