دعوة لإعادة هيكلة نظام التنمية بعد تجميد المساعدات الأمريكية
(البيان)-13/02/2025
يرى كثيرون أن المسار الذي تتخذه إدارة الرئيس دونالد ترامب لتقويض الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية غير مدروس العواقب.
ولا يقل هذا القرار الأمريكي تهوراً عن قرار رئيس الوزراء البريطاني الأسبق بوريس جونسون عام 2020 بدمج وزارة التنمية الدولية مع وزارة الخارجية، بل قد يتجاوزه في تداعياته، حيث تمخض عنه خفض كبير في ميزانية التنمية.
ولا يقتصر ضرر هذا القرار على تشويه صورة الولايات المتحدة ونفوذها الدبلوماسي، بل يمتد إلى إضعاف قدرتها على المساهمة الفعالة في مواجهة التحديات العالمية التي لا شك ستطال بتأثيراتها الداخل الأمريكي.
ويتجاوز الأمر مجرد مناشدة إدارة ترامب بإعادة النظر في قرارها، فالمهمة العاجلة الآن هي البحث عن حلول لإنقاذ ملايين الأرواح المعرضة للخطر، خاصة أن الولايات المتحدة تسهم بنحو 40% من الإنفاق الإنساني العالمي.
وتظهر الإحصاءات تزايد أهمية هذا الإنفاق، إذ ارتفعت نسبته من إجمالي المساعدات الدولية من 10% في عام 2012 إلى 25% في 2023، وذلك بسبب تصاعد أرقام ومساحات النزاعات والأزمات حول العالم.
لقد أظهر نظام المساعدات الدولي الحاجة الماسة إلى إصلاح جذري حتى قبل السياسات التخريبية لإدارة ترامب، خاصة في مجالي محاربة الفقر وتمويل المشاريع العالمية المشتركة كمكافحة الأوبئة وحماية البيئة.
ولطالما عبرت الدول النامية عن استيائها من نظام لا يلبي احتياجاتها الحقيقية ولا يمنحها صوتاً مسموعاً في تحديد أولويات المساعدات. وفي المقابل، تواجه الدول المانحة التقليدية صعوبات في الحفاظ على مستويات المساعدات بسبب أزماتها المالية، وتراجع الدعم الشعبي لفكرة التضامن الدولي.
ولا ينفي ذلك حقيقة مفادها أن التدفقات المالية للدول النامية وصلت إلى مستويات تاريخية غير مسبوقة. ويرجع ذلك جزئياً إلى ظهور قوى مانحة جديدة مثل الصين والإمارات والهند وروسيا والسعودية وتركيا.
ولا يقتصر التغيير على ظهور مانحين جدد، بل يمتد إلى طبيعة الإنفاق نفسه. فقد شهدت الفترة بين 2017 – 2021 تحولاً كبيراً في توجيه المساعدات نحو القضايا العالمية مثل التغير المناخي وأزمات اللاجئين.
حيث تضاعفت نسبة الإنفاق على هذه المجالات من 37% إلى 60%. وهذا التحول أدى إلى تراجع المساعدات المخصصة لمكافحة الفقر على مستوى الدول النامية.
إذن كيف يمكن أن يبدو النظام التنموي العالمي أكثر كفاءة وإنصافاً؟ يكمن الحل أولاً في إجراء إصلاح جذري لمنظومة المساعدات الإنسانية، لتصبح أكثر فاعلية وقدرة على الاستجابة للأزمات، مع العمل على جذب مانحين جدد قادرين على تقديم تمويل مستدام يمكن الاعتماد عليه.
كما أن تعزيز الاستثمارات في الوقاية من النزاعات والأزمات قبل وقوعها يعد نهجاً أكثر جدوى من الناحية الاقتصادية، مقارنةً بالتدخل بعد أن تتسبب الكوارث في تدمير حياة الناس ومصادر رزقهم.
وثانياً، قد يكون الحد من الفقر على المستوى الوطني أكثر فاعلية من خلال المؤسسات متعددة الأطراف، التي يمكنها تقديم قروض ميسرة بمبالغ كبيرة. ورغم أن العلاقات الثنائية بين الدول المانحة والمستفيدة ستستمر.
إلا أن العبء الأكبر في تمويل أهداف التنمية المستدامة قد يقع على عاتق بنوك التنمية، فهذه البنوك لديها القدرة على استثمار ميزانياتها بشكل يحقق عائداً أكبر للمانحين.
كما أن هذا النهج قد يساعد في تخفيف معارضة المواطنين في الدول المانحة لتمويل مشاريع خارجية في وقت تعاني فيه الخدمات العامة في بلدانهم من ضغوط مالية.
وقد شهدت السنوات العشر الماضية نمواً متسارعاً في الركيزة الثالثة لنظام المساعدات الدولية، وهي المنافع العامة العالمية. ويعود هذا النمو إلى تزايد الدعم السياسي في كثير من الدول لمكافحة التغير المناخي والأوبئة، إضافة إلى اهتمام القطاع الخاص بالاستثمار في هذه المجالات.
لكن رغم أهمية هذا التطور، فإن الوضع الحالي لا يرقى لمستوى «النظام» المتكامل، فمثلاً هناك أكثر من 80 صندوقاً مختلفاً لمعالجة قضايا المناخ، لكن حجم كل منها صغير جداً لإحداث تأثير حقيقي. وعليه، فإن الوقت الحالي يُمثل فرصة مواتية لإجراء إصلاح جذري في آليات تمويل المناخ، بهدف تعزيز الكفاءة وتوسيع نطاق التأثير.
كما أنه الوقت المناسب للاعتراف بأن مساعدة الدول النامية على التكيف مع التغيرات المناخية – سواء في مواجهة الفيضانات أو التغيرات في أنماط الطقس أو الحاجة لمحاصيل ومصادر طاقة جديدة أو التعامل مع الآثار الصحية – هي تحدٍ تنموي جوهري يستحق تقديم دعم إضافي للدول منخفضة الدخل.
وتمثل الأزمة الحالية بسبب تجميد نظام المساعدات الأمريكي جرس إنذار يجب أن يدفع بقية دول العالم للتحرك. وهناك أفكار جديدة وواعدة بدأت تظهر وتحتاج إلى التطوير، سواء بمشاركة الحكومة الأمريكية أو من دونها، لبناء منظومة تنموية جديدة تجمع كل الأطراف المعنية.
وتفتح قنوات تمويل جديدة، وتعيد هيكلة وإصلاح المؤسسات القائمة. وربما يكون في هذه الأزمة فرصة، حيث يمكن أن ينبثق من رماد سياسات إدارة ترامب التدميرية توافق عالمي جديد حول التنمية الدولية – توافق يتميز بقدر أكبر من الكفاءة والعدالة والفاعلية.