سلاح الهجرة يشكل التهديد الأكبر للاقتصاد الأمريكي
(البيان)-24/06/2025
يراقب قطاع الأعمال والمستثمرون بقلق بالغ تطورات الأجندة الجمركية للرئيس دونالد ترامب، إذ تلقي التعريفات الجمركية بظلالها الثقيلة على هوامش الأرباح، وتُربك سلاسل التوريد العالمية، ما يجعل أثرها الاقتصادي ملموساً وتأثيرها وشيكاً. لكن سياسة أخرى ضمن حزمة خطط الرئيس الأمريكي قد تكون أشد وقعاً على الاقتصاد من الرسوم الجمركية نفسها، وهي الحملة الشاملة على الهجرة التي أطلقها ترامب.
فقد تُكبّد السياسات المتشددة التي يتبنّاها في ملف الهجرة الاقتصاد الأمريكي خسائر تفوق تلك الناجمة عن حربه التجارية، إذ تقوم استراتيجيته، بحسب أليكس نوراستيه، نائب رئيس معهد كاتو، على ثلاثة محاور رئيسية: الإغلاق التام لحركة العبور غير الشرعي عبر الحدود الجنوبية مع المكسيك، وتوسيع عمليات الترحيل الداخلي من خلال تعزيز صلاحيات هيئة الهجرة والجمارك، وتقليص الهجرة القانونية عبر تفكيك برامج استقبال اللاجئين، وتقييد تأشيرات الطلاب، وفرض حظر على جنسيات بعينها، فضلاً عن تشديد متطلبات الحصول على التأشيرات.
وها هي الركائز الثلاث تؤتي ثمارها بوتيرة متسارعة، إذ انحدرت أعداد المهاجرين على الحدود الجنوبية إلى مستويات لم تشهدها الولايات المتحدة منذ ستينيات القرن الماضي، فيما تشير إحصاءات هيئة الهجرة والجمارك إلى ارتفاع متوسط الاعتقالات اليومية إلى 2000 حالة في الأسبوع الأول من يونيو الجاري، مقارنة بنحو 300 حالة فقط يومياً خلال السنة المالية 2024 في ظل إدارة بايدن.
ويتزامن ذلك مع التهديدات التي وجهها البيت الأبيض للجامعات ومراكز البحوث بتقليص الدعم المالي، ما دفع ثلاثة أرباع باحثي الدراسات العليا وطلاب الدكتوراه المشاركين في استطلاع أجرته مجلة «نيتشر» في مارس الماضي إلى التفكير جدياً في مغادرة الولايات المتحدة. ولعل التراجع الملحوظ مؤخراً في تدفق السياح يعكس حالة الحذر المتزايد من السفر إلى الأراضي الأمريكية في ظل المناخ السائد.
وفي ظل هذا الواقع، خفّض الاقتصاديون توقعاتهم لمعدلات الهجرة إلى الولايات المتحدة، إذ تُظهر دراسة مشتركة لمعهد بروكينجز ومعهد المشروع الأمريكي أن البلاد ستسجل هذا العام صافي هجرة سلبي لأول مرة منذ أكثر من نصف قرن، نتيجة تراجع أعداد الوافدين الجدد، وارتفاع حالات الترحيل القسري والمغادرة الطوعية، بحسب الباحثين.
وتشير توقعات مؤسسة «إيفركور آي إس آي» إلى أن يظل صافي الهجرة سلبياً إلى ما بعد 2025، وترجّح المؤسسة انخفاضاً حاداً في أعداد السكان المولودين خارج الولايات المتحدة بمعدل 500 ألف نسمة سنوياً على مدار السنوات الثلاث القادمة.
وتأتي هذه التقديرات دون احتساب تداعيات سياسات ترامب المتشددة تجاه الجامعات وتأشيرات الطلاب، ما يشكل تحدياً جسيماً للاقتصاد الأمريكي الذي ارتكز نموه مؤخراً بشكل كبير في إحدى دعائمه على العمالة الوافدة. ولعل المؤشر الأبرز على ذلك هو الدور المحوري الذي لعبه العمال الأجانب في تحقيق النمو اللافت في الوظائف الأمريكية عقب الجائحة.
وتواجه الولايات المتحدة معادلة ديموغرافية صعبة، إذ سيتحول مسار النمو السكاني إلى الانكماش حال غياب تدفقات الهجرة، وهو ما يؤكده نيكولاس إيبرشتات، الاقتصادي السياسي في معهد المشروع الأمريكي، بقوله: «باتت أمريكا اليوم تواجه أزمة شيخوخة سكانية مع تراجع معدلات الإنجاب إلى ما دون مستويات الإحلال الطبيعي للسكان، ما أوقف نمو السكان المولودين محلياً في سن العمل».
ووفق هذه المعطيات، يتجه معدل النمو السنوي المحتمل للاقتصاد الأمريكي إلى الهبوط بشكل ملحوظ عن مستواه الحالي البالغ 2 بالمئة، حيث تتوقع مؤسسة «مورغان ستانلي» انحداره إلى نحو 1.5 بالمئة بحلول عام 2026، مع تقلص إجمالي ساعات العمل جراء السياسات التي يتبناها ترامب.
وببساطة، يماثل فقدان العمالة الأجنبية استبعاد مدخل أساسي من المعادلة الاقتصادية، (فيما تقتصر تأثيرات الرسوم الجمركية، التي ترفع تكاليف الإنتاج، على طريقة توظيف المدخلات الاقتصادية). وستجد الولايات المتحدة نفسها أمام اعتماد مفرط على تحقيق قفزات إنتاجية هائلة، عبر توظيف الذكاء الاصطناعي مثلاً، لإنقاذ معدلات النمو المتراجعة.
وتشير تقديرات مركز «بيو» للأبحاث إلى وجود نحو 8.3 ملايين عامل غير مصرح لهم في الولايات المتحدة حتى عام 2022، يمثلون قرابة 5% من إجمالي القوى العاملة الأمريكية. ويضطلع هؤلاء العمال بدور حيوي في دعم قطاعات محورية تعاني شحاً في العمالة، أبرزها الإنشاءات والزراعة والتصنيع، فيما لا تزال التقنيات الموفرة للعمالة محدودة في مهن يدوية كالبناء بالطوب والتسقيف التي تستقطب نسبة مرتفعة من العمالة غير الموثقة. ويتمتع هؤلاء العمال، بعد اقتطاع الضرائب، بقوة شرائية سنوية تفوق 250 مليار دولار، وفق المجلس الأمريكي للهجرة. وفي سيناريو متحفظ لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي تضمن ترحيل 1.3 مليون عامل غير نظامي، فإن الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي سينخفض بنسبة 1.2% عن المستوى الأساسي بحلول 2028.
وبالنسبة للعمالة الأجنبية عالية المهارة، يشير تقرير حديث لمؤسسة «غولدمان ساكس» إلى أنه رغم أن المهاجرين ذوي المهارات العالية لا يشكلون سوى 5% من القوى العاملة الأمريكية، فإنهم يستحوذون على نسبة أكبر بكثير من القوى العاملة في قطاعات تتطلب تعليماً متقدماً وخبرات متخصصة، مثل خدمات المعلومات، وتصميم أشباه الموصلات، والبحث العلمي، وصناعة الأدوية.
وتكشف دراسة للمكتب الوطني للبحوث الاقتصادية أن المهاجرين في الولايات المتحدة وقفوا وراء تأسيس خمس الشركات الناشئة المدعومة برأسمال استثماري مخاطر بين عامي 1990 و2019، فيما جاء ربع القيمة الاقتصادية الإجمالية المتولدة من براءات الاختراع في الشركات بين 1990 إلى 2016 من إبداعات كفاءات ولدت خارج الأراضي الأمريكية.
عموماً، وعلى المدى البعيد، سيتضح أن فقدان الكفاءات الوافدة من الخارج – وليس ارتفاع تكلفة البضائع المستوردة – هو الجرح الأعمق الذي سيلحق بازدهار أمريكا ورخائها.