شبح نهاية عصر الدولار يحوم في أفق النظام المالي العالمي
(البيان)-30/04/2025
في مقال سابق لي نُشر عام 2019، طرحت ما سميته «سيناريو يوم قيامة الدولار»، وهو تصور لتحول استراتيجي في هيكل العولمة الاقتصادية نحو نظام مالي عالمي يتجاوز اتفاقية بريتون وودز.
ومثل هذا التحول سيؤثر سلباً في قيمة الدولار الأمريكي والأصول المرتبطة به، ما سيؤدي إلى ارتفاع ملحوظ في عائدات السندات ودفع أسعار الذهب ومختلف العملات الأجنبية نحو مستويات قياسية جديدة.
وها نحن أمام واقع المرحلة الجديدة، فبينما يتأرجح مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» تبعاً لتقلبات مزاج دونالد ترامب اليومية، فإن ملامح عصر جديد باتت واضحة للعيان.
وعلى الرغم من أنني لم أكن بارعة يوماً في تحديد توقيت التحولات الكبرى في الأسواق فكوني نشأت في أسرة مهاجرة يجعلني أميل إلى تجنب المخاطر مبكراً، لذلك، أرى أن منظومة الاستثمار برمتها تشهد تحولاً عميقاً، وأن إعادة هيكلة المحافظ الاستثمارية بعيداً عن السوق الأمريكي أضحت ضرورة حتمية، بغض النظر عن مسار الحرب التجارية.
وحتى لو كانت كامالا هاريس تولت مقاليد السلطة، لما تغير واقع أننا نعيش في عالم ما بعد «إجماع واشنطن» (وهو ما اعترفت به إدارة بايدن صراحةً)، كما أننا نسير – وإن بوتيرة أبطأ – نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب، لم يعد فيه الدولار وأصوله يحتكران المشهد الاستثماري العالمي.
قليلة هي قصص النجاح الاستثماري التي تدوم لأكثر من عقد، وبينما تربعت الولايات المتحدة على عرش الاقتصاد العالمي لفترة تتجاوز ذلك بكثير، إلا أن النموذج المالي المُفرط والمركّز والمثقل بالديون الذي دفعها إلى القمة قد استنفد طاقاته بصورة تتخطى شخص ترامب وتصرفاته المثيرة للجدل.
وتبرز في هذا السياق عدة إشكاليات جوهرية، أولاها الاعتماد المفرط على النمو الاقتصادي المدفوع بتضخم قيمة الأصول، فقد تمحورت تقريباً جميع القرارات الاقتصادية الأمريكية الكبرى خلال العقود الخمسة الماضية حول دعم أسعار الأصول بدءاً من تحرير أسعار الفائدة أواخر السبعينيات، مروراً بشرعنة استرداد الشركات لأسهمها، وصولاً إلى الإعفاءات الضريبية لمكافآت الأداء المدفوعة بالأسهم التي أنتجت الثروات الورقية الهائلة في وادي السيليكون.
يروّج ترامب ومستشاروه لفكرة أن المواطن العادي لا يأبه بتقلبات البورصة، لكن حقيقة أن نمو أسعار الأصول قد تجاوز بشكل صارخ نمو الدخل تكشف عن ارتهان متزايد للجميع بأسواق المال.
كما أن انكشاف الأسر الأمريكية على الأسهم بلغ مستويات قياسية (حيث تمثل الأسهم وصناديق الاستثمار 26% من إجمالي أصول الأسر)، ما يعكس هشاشة متنامية أمام أي انهيار محتمل في الأسواق، سواء على مستوى الأفراد أو الاقتصاد برمته.
وكشف المحلل لوك جرومن في عرض تقديمي نُشر في يناير أن «أسواق الأسهم باتت المحرك الرئيس لإيرادات الضرائب الفيدرالية الأمريكية» منذ عام 1995، محذراً من أنه «إذا تراجعت الأسهم بشدة واستمرت في انحدارها، فستدخل معدلات الإنفاق الاستهلاكي والناتج المحلي الإجمالي الأمريكي في دوامة ركود، ما سيدفع العجز نحو مستويات أعلى»، وسيحدث ذلك في وقت حرج يظل فيه شبح التضخم قائماً وتتصاعد فيه علاوات المخاطر التي يطالب بها المستثمرون مقابل الأصول الأمريكية.
وبغض النظر عن مسار الرسوم الجمركية، يجمع معظم المحللين على ترقب موجة تصحيحية أكبر لأسعار الأسهم الأمريكية، فالتقييمات الحالية لا تزال مبالغاً فيها مقارنة بنظيراتها العالمية، وقد صنف أحدث تقارير صندوق النقد الدولي حول الاستقرار المالي هذه الظاهرة كمصدر خطر كبير يهدد أسواق المال العالمية.
ومن بواعث قلقي العميق حول الأسواق الأمريكية، الارتفاع الحاد في ديون القطاع الخاص ومستويات الرافعة المالية خلال السنوات الأخيرة، حيث شهد اقتراض الشركات من أسواق الائتمان الخاصة زيادة ضخمة، وخاصة من قبل شركات كانت تُصنف تقليدياً كشديدة الخطورة للحصول على التمويل المصرفي.
وتحمل العديد من صناديق الائتمان الخاصة المانحة لهذه القروض تواريخ استحقاق محددة – فترات زمنية لن تستطيع بعدها تجديد القروض – ستحل بين الوقت الراهن وعام 2027.
ويقول كوري فراير، المستشار السابق لهيئة الأوراق المالية والبورصات لشؤون الاستقرار المالي، المدير الحالي لحماية المستثمرين في اتحاد المستهلكين الأمريكي: «لو تزامن تدهور بيئة الأعمال مع استحقاق حزمة كبيرة من الائتمانات الخاصة، فقد نشهد موجة إفلاسات متعددة ومتزامنة».
وقد تتجاوز تداعيات هذا السيناريو مجرد انهيار مصارف الظل لتطال القطاع المصرفي النظامي، الذي أصبح أكثر انكشافاً على الكيانات غير المصرفية مقارنة بوضعه عام 2008 حين اندلعت الأزمة المالية العالمية.
وتتمثل النقطة الأخيرة في تسرب مخاطر إضافية إلى النظام المالي الأمريكي عبر العملات المشفرة، في وقت تتبنى فيه إدارة ترامب نهجاً متساهلاً تجاه الضوابط التنظيمية، مع تقليص ممنهج لكوادر هيئة الأوراق المالية والبورصات، وإضعاف متعمد لمكتب حماية المستهلك المالي.
ومما يثير القلق أن الحزبين الجمهوري والديمقراطي يدعمان قانون «جينيوس»، الذي سيفتح الباب على مصراعيه لاستخدام العملات المشفرة في الاقتصاد الحقيقي، ما قد يفاقم المخاطر المحدقة التي سبق استعراضها.
وكانت حكومة بايدن قد اضطرت بالفعل لتقديم دعم غير رسمي لمنصة العملات المشفرة «سيركل» (Circle) عندما انهار بنك «وادي السيليكون».
ومن شأن التشريع الجديد، الذي اجتاز مؤخراً المراحل الأولية في كل من مجلس الشيوخ ومجلس النواب، أن يحفز دخول المزيد من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية إلى سوق العملات المشفرة، وهو قطاع يمتلك فيه كل من الرئيس ترامب ومستشاره المقرب إيلون ماسك مصالح شخصية واضحة.
إنني لا أزعم هنا حتمية انهيار الاقتصاد الأمريكي بفعل أزمة سيولة ناجمة عن ديون الشركات أو العملات المشفرة، رغم أنني لن أستغرب إذا انبثقت الأزمة المالية القادمة من هذين القطاعين.
بل إن ما أؤكده هو أنك لست بحاجة للإيمان بحرب تجارية وشيكة لتدرك أن أسواق الأصول الأمريكية أصبحت متزايدة المخاطر ولا تزال مقيّمة بأعلى من قيمتها الحقيقية.
وعندما نضيف لذلك أزمة الثقة التي صنعها ترامب، فإنني أرى أن «سيناريو يوم قيامة الدولار» الذي تحدثت عنه لا يزال هناك احتمال كبير لحدوثه.