غيوم قاتمة تخيم على فجر عهد جديد للاتحاد الأوروبي
(البيان)-02/09/2024
المشكلات السياسية والاقتصادية تتفاقم في ألمانيا وفرنسا أكبر دولتين بالاتحاد مع بدء دورة قيادة جديدة ببروكسل
في عالم متقلب، يواجه الاتحاد الأوروبي تحديات متزايدة تهدد مصالحه وقيمه الأساسية. لذا، يتطلب جدول أعمال الفريق القيادي الجديد، الذي سيتولى المسؤولية في بروكسل خلال السنوات الخمس المقبلة، التركيز على أولويات حاسمة، تشمل تعزيز الأمن والدفاع، وتحفيز القدرة التنافسية للأعمال، ومكافحة تغير المناخ، وإدارة التوسع نحو الشرق.
وحالياً، مع وجود 27 دولة عضو، تميل آلية الاتحاد الأوروبي للعمل بصورة أكثر كفاءة عندما تتعاون فرنسا وألمانيا معاً لتوفير التوجيه والحافز الاستراتيجي. لكن ألمانيا وفرنسا تواجهان هذه المرة تحديات داخلية أشد من تلك التي برزت في بداية الدورات السياسية السابقة للاتحاد الأوروبي، وهذا من شأنه أن يعوق قدرتهما على أداء دورهما التقليدي.
وفي بعض النواحي، كان الانتقال إلى مرحلة جديدة في بروكسل سلساً حتى الآن، لكن قد تظهر بعض العقبات في المستقبل. فأورسولا فون دير لاين ستواصل دورها كرئيسة للمفوضية الأوروبية لولاية ثانية، بعد فوزها في تصويت البرلمان الأوروبي بسهولة أكثر مما كان متوقعاً قبل أشهر فقط.
كما اختار زعماء الاتحاد الأوروبي رئيس الوزراء البرتغالي السابق أنطونيو كوستا رئيساً جديداً للمجلس الأوروبي، الذي يضم رؤساء الدول والحكومات الـ 27، ورئيسة الوزراء الإستونية كايا كالاس رئيسة جديدة لشؤون السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي.
وجاءت هذه الترشيحات بعد انتخابات البرلمان الأوروبي، والتي يجب أن نعترف أن نتائجها تسمح بتفسيرات مختلفة بناءً على تفضيلاتك السياسية ومخاوفك. وقد عبر ستيفان لين، وهو الزميل في كارنيغي أوروبا، عن هذا الوضع جيداً بقوله: نصف العناوين الرئيسية لوسائل الإعلام الأوروبية تؤكد صعود اليمين المتطرف، بينما يبعث النصف الآخر برسالة مطمئنة مفادها أن تيار الوسط صامد.
وكلا الرأيين صحيح. فعلى الرغم من اكتساب اليمين المتطرف للدعم، لا يزال يمثل 25% فقط من أعضاء البرلمان الأوروبي، فيما حافظت أحزاب الوسط على الأغلبية بسهولة.
ويتعين علينا أن نضع في الحسبان أن نتائج الانتخابات في فرنسا وألمانيا لم تبعث على الاطمئنان بأي حال من الأحوال. فقد أدت هزيمة الرئيس إيمانويل ماكرون أمام اليمين المتطرف إلى طريق سياسي مسدود في فرنسا، التي ظلت بلا حكومة جديدة لما يقرب من شهرين.
والسؤال المطروح هو إلى أي مدى ستعيق المخاطر المحيطة بالانتخابات الرئاسية الفرنسية 2027 المبادرات السياسية الطموحة في بروكسل مع تولي القادة الجدد مهامهم.
وفي ألمانيا، عانت الأحزاب الثلاثة في الائتلاف الحاكم للمستشار أولاف شولتز من نكسات شديدة في انتخابات الاتحاد الأوروبي. ومن المتوقع أن تواجه المزيد من التحديات مع إجراء الانتخابات في الولايات الثلاث بشرق ألمانيا: ساكسونيا وتورينجن، وبراندنبورغ. ومن المتوقع أن يحرز اليمين المتطرف تقدماً قوياً، وربما يأتي في المقدمة خلال هذه الانتخابات.
في هذه الأثناء، قد تواجه أحزاب التحالف واقعاً شديد الصعوبة يتمثل في الفوز بمقاعد قليلة أو عدم الفوز بأي مقعد على الإطلاق في مجالس الولايات الثلاث. فهل من الممكن، كما يشير ديفيد مارش، أن يتخلى تحالف شولتز عن السلطة حتى قبل انتخابات البوندستاغ المقرر إجراؤها في غضون نحو عام من الآن؟
بالإضافة إلى ذلك، لا تزال عملية الانتقال بالاتحاد الأوروبي تواجه بعض العقبات التي يتعين التغلب عليها. والمسألة الأكثر إلحاحاً تتمثل في تشكيل المفوضية التي ترأسها فون دير لاين.
فقد طلبت من كل حكومة وطنية تقديم مرشحين لمناصب المفوضين – امرأة ورجل – بحيث تتمكن من تشكيل فريق جديد متوازن بين الجنسين. ومع ذلك، لم تتقدم الغالبية العظمى سوى بمرشح ذكر واحد. وفي بعض الحالات، لم يكن هؤلاء سياسيين من الدرجة الأولى.
وأنا لا أدعي معرفة كيفية حل هذه المعضلة، لكن ثمة ثلاث نقاط يجب مراعاتها.
أولاً: كما أشار ألبرتو أليمانو، الباحث في كلية إدارة الأعمال «إتش إي سي» في باريس، فإن حقيقة تجاهل العديد من الدول الأعضاء لطلب فون دير لاين «تظهر مستوى غير مسبوق من عدم احترام حكومات الاتحاد الأوروبي للرئيسة المنتخبة».
ثانياً: باتت السياسة الأوروبية مجزأة وذات استقطاب عال لدرجة أن العديد من الحكومات اختارت تقديم ترشيحات تحافظ على الهدوء والسلام على الصعيد الوطني، لكنها جاءت على حساب عدم خدمة مصالح الاتحاد الأوروبي الأوسع.
ويؤكد هذا الوضع أن الاتحاد الأوروبي ليس اتحاداً فيدرالياً، بل منظمة هجينة على نحو غير عادي، حيث يتم تقاسم الكثير من السيادة الوطنية، لكن السلطة المركزية تظل ضعيفة وغالباً ما تعطي الحكومات الأولوية لمصالحها الخاصة.
ثالثاً: من المرجح حدوث ضجة كبيرة في البرلمان الأوروبي، حيث يتعين على كل مرشح للمفوضية اجتياز استجواب من قبل الجمعية، وحتى إذا تم حل قضية النوع الاجتماعي قبل هذه الجلسات، فمن المرجح أن يكون أعضاء البرلمان الأوروبي عدائيين.
وفي عام 2019، رفضت الجمعية ثلاثة مرشحين، كانت أبرزهم سيلفي جولار، الليبرالية الفرنسية والحليفة المقربة لماكرون. ونحن نتوقع موقفاً مماثلاً هذه المرة. فالبرلمان يرى نفسه – ربما مع قدر من الوهم – أنه أكثر المؤسسات استقامة في الاتحاد الأوروبي، حيث يدافع عن مبادئ الكتلة بينما يتورط آخرون في صفقات سيئة.
كما يحب البرلمان إظهار أنه رغم افتقاره إلى الصلاحيات الكاملة للمجالس التشريعية الوطنية (على سبيل المثال، لا يمكنه وضع القوانين بشكل مستقل)، فإنه يستطيع إظهار قوته في المجالات التي يتمتع فيها بحقوق، والتي من بينها القدرة على رفض المفوضين المقترحين.
والنتيجة المتوقعة هي أن لجنة فون دير لاين لن تعمل بكامل طاقتها حتى نوفمبر. وفي الوقت نفسه، تشعر المؤسسات القائمة في بروكسل وأغلب الحكومات الوطنية بالإحباط إزاء مواقف المجر، التي تتولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي لمدة ستة أشهر منذ يوليو.
والواقع أن هذا الاستياء لا يرجع فقط إلى الدبلوماسية المستقلة التي ينتهجها رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، مثل رحلاته لزيارة فلاديمير بوتين وشي جين بينغ ودونالد ترامب، حيث لا تتمتع الرئاسة الدورية بالسلطة اللازمة للتعامل مع السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي بمفردها، بل يتعلق الأمر أيضاً بإعلان بودابست أخيراً عن خطتها لتطبيق نظام تأشيرات جديد سريع المسار لمواطني ثماني دول، بما في ذلك روسيا وبيلاروسيا، لدخول المجر دون فحوصات أمنية أو قيود.
ويثير ذلك مخاوف أمنية واضحة بالنسبة للاتحاد الأوروبي في الوقت الذي يلتزم فيه بدعم أوكرانيا بالموارد العسكرية والمالية في الحرب مع روسيا.
وتسلط القضية المجرية الضوء على مشكلة أكبر، إذ كيف يمكن للاتحاد الأوروبي تنفيذ سياسة خارجية متسقة وقوية عندما تتجاوز دولة عضو أو أكثر حدودها، أو عندما تتسبب صراعات، مثل الحرب بين إسرائيل وحماس، في خلق انقسامات داخل الاتحاد؟ وفي كتابه الأخير بعنوان «نضوج أوروبا»، يقول الباحث اليوناني لوكاس تسوكاليس إنه «في عالم تتغير فيه الصفائح التكتونية الجيوسياسية بسرعة وتحل المخاوف الأمنية محل الكفاءة الاقتصادية، وفي عالم تأخذ فيه النزعة الروسية منعطفاً سيئاً وتتحول النزعة الانفرادية الأمريكية أحياناً إلى الأسوأ، يجد الاتحاد الأوروبي صعوبة هائلة في التعامل مع واقع سياسات القوى المختلفة».
ويقترح تسوكاليس حلاً لذلك، حيث يبدو من غير المرجح أن يتم التوصل إلى معاهدة جديدة للاتحاد الأوروبي من شأنها أن تغني عن الحاجة إلى الإجماع في السياسة الخارجية، وذلك لأن بعض الحكومات تخشى إخفاق هذه المبادرة في الاستفتاءات الوطنية، على غرار ما حدث في عام 2005 في فرنسا وهولندا، عندما رفض الناخبون معاهدة دستورية مقترحة للاتحاد الأوروبي.
وبدلاً من ذلك، يقترح تسوكاليس أن «مجموعة أساسية من البلدان تحتاج بشكل عاجل إلى التحرك بسرعة أكبر نحو سياسة خارجية ودفاعية مشتركة». ومن الطبيعي أن تكون فرنسا وألمانيا جزءاً من هذه المجموعة الأساسية، لكن، كما يلاحظ جوزيف دو ويك من معهد مونتين في باريس، ثمة خلافات بين الدولتين على بعض القضايا المهمة.
وهذا يعيدني إلى المشكلات الداخلية في فرنسا وألمانيا، فبعض هذه المشكلات اقتصادية بطبيعتها. إذ إن النموذج الاقتصادي الألماني، الذي يعتمد جزئياً على واردات الطاقة الروسية وصادرات السلع المصنعة إلى الصين، في حاجة ماسة إلى إصلاح جذري.
وبعد انتشار الأنباء الأخيرة التي تفيد بانكماش الاقتصاد خلال الربع الثاني، كتب كارستن برزيسكي من بنك «آي إن جي»: «لقد عاد الاقتصاد الألماني الآن إلى ما كان عليه قبل عام: اقتصاد عالق في ركود ومتأخر في النمو مقارنة ببقية منطقة اليورو».
في الوقت نفسه، يهدد الصراع السياسي في فرنسا بتقويض الكثير من التقدم الاقتصادي المحرز على مدى السنوات العشر الماضية، وذلك بحسب ما كتبته لورانس بون لصحيفة فاينانشال تايمز. وكما هي الحال في بلدان منطقة اليورو الأخرى، فإن المستويات المرتفعة من الديون العامة والقيود على الميزانية تشكل جزءاً من المشكلة، حسبما أشار البنك المركزي الأوروبي.
بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فإن المخاوف تكمن في أن الصعوبات الاقتصادية تحفز القوى السياسية، مثل اليسار واليمين المتطرفين في فرنسا وحزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف وتحالف سارة فاجنكنشت في ألمانيا المعادي للمؤسسة والمحب لروسيا.
إن هذه القوى ستقاوم التحركات الجريئة نحو تشكيل مجموعة أساسية من الفاعلين في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي والتي يوصي بها لوكاس تسوكاليس.
كما أن لديها ما يكفي من النفوذ للتأثير على الخيارات السياسية للأحزاب الرئيسية في التعامل مع قضايا تثير قلق الاتحاد الأوروبي، مثل الهجرة والميزانية المشتركة للاتحاد وتغير المناخ. ومع بدء تشكيل فريق القيادة الجديد للاتحاد الأوروبي في بروكسل، سيكون من الضروري مراقبة أنشطتهم، وكذلك كيفية تطور الأحداث السياسية في فرنسا وألمانيا.