فقاعة التوليب: الدرس الاقتصادي الذي لا يُنسى
(العربية)-14/08/2025
*عبدالرحمن بن صالح الشريدة
في شتاء عام 1636م، كانت شوارع أمستردام تعج بحمى غريبة لم تكن حرباً أو ثورة، بل ما عرف لاحقاً بـ “حمى التوليب”. تلك الزهرة التي كانت يوماً مجرد نبات جميل في الحدائق، تحولت إلى سلعة تُباع بأرقام تفوق ثمن منزل كامل. الحكايات تتحدث عن تجار باعوا عقاراتهم لشراء بصلة توليب واحدة، وعن صفقات تُبرم في المقاهي والأسواق بوعود مكتوبة على ورق، وكأن الورق نفسه صار ذهباً. لم يكن أحد يتحدث عن جمال الزهرة أو ندرتها الحقيقية، بل عن السعر الذي “سيصل إليه” بعد أيام أو أسابيع. وفي لحظة واحدة، كما ارتفعت الأسعار بجنون، انهارت. آلاف فقدوا ثرواتهم، والأسواق التي كانت تفيض بالصخب صارت هادئة كالمقابر.
ما حدث في هولندا قبل أربعة قرون ليس قصة قديمة تنتهي بمجرد أن نغلق الكتاب. في الحقيقة، إذا نظرنا حولنا اليوم، سنجد أن السوق السعودية – رغم اختلاف الزمان والمكان – يعكس بعض الظواهر النفسية والاقتصادية التي رافقت فقاعة التوليب. الفكرة ليست أن الأسهم سيئة أو أن السوق مجرد “فقاعة”، بل أن بعض السلوكيات الجمعية، إذا لم تُقرأ بوعي، يمكن أن تدفع أي سوق إلى موجات تضخم في الأسعار بعيدة عن الأساسيات الاقتصادية.
أحد أبرز تلك السلوكيات ما يسميه الاقتصاديون “نظرية الرأي المخالف”، وهي ببساطة مراقبة المزاج العام في السوق، وفهم أن الجمهور عندما يتحمس بشكل جماعي لشراء أصل معين، قد يكون ذلك مؤشراً على أن الأسعار وصلت إلى ذروتها، والعكس صحيح. الدراسات توضح أن الأسواق لا تتحرك فقط بناءً على الأرباح أو الخسائر الفعلية للشركات، بل على مشاعر وتوقعات المستثمرين، وهي غالباً غير عقلانية.
في السوق السعودية، نرى هذه الظاهرة بشكل واضح في بعض الموجات التي ترفع أسعار أسهم شركات لا تملك أرباحاً تشغيلية قوية أو خططاً توسعية متينة، لمجرد وجود “قصة” حولها. القصة قد تكون عن دخول مستثمر كبير، أو توقعات بصفقة مستقبلية، أو حتى مجرد تداولات عالية تُفسر على أنها “إشارة” لشيء كبير قادم. هنا يتحول السوق من تقييم الشركات بناءً على بياناتها الفعلية إلى حالة من إعادة بيع الأمل نفسه.
اللافت أن هذه الدورات لا تأتي من المستثمرين الأفراد وحدهم، بل أحياناً من المؤسسات وصناديق الاستثمار، التي قد تندفع خلف تيار عام لاعتبارات تتعلق بتحقيق عوائد سريعة أو مجاراة السوق. وعندما يتغير المزاج العام فجأة، تبدأ عمليات البيع العشوائي، لتتكرر نفس الحلقة التي عرفتها هولندا قبل قرون، وعرفتها أسواق التكنولوجيا في أوائل الألفية، وعرفتها العملات الرقمية أكثر من مرة في العقد الأخير.
لكن لماذا يهمنا هذا الآن؟ لأن سوق الأسهم ليس مجرد لعبة بين مشترٍ وبائع، بل هو مرآة لثقة المجتمع في اقتصاده. إذا تحولت هذه المرآة إلى صورة مشوشة، فإن ذلك يخلق قرارات مالية خاطئة على مستوى الأفراد والشركات وحتى البنوك. والمفارقة أن سوقاً تعاني من فقاعة سعرية قد يجذب استثمارات أكبر على المدى القصير، لكنه يترك وراءه أرضاً جرداء بعد الانفجار، حيث ينسحب المستثمرون ويقل التمويل وتتعطل المشاريع.
هناك أيضاً بُعد اجتماعي للموضوع. في فقاعة التوليب، لم يخسر التجار فقط، بل فقدت المدن نشاطها التجاري لسنوات بسبب إحباط الناس من الاستثمار. وفي سوقنا، حين يخسر آلاف صغار المستثمرين مدخراتهم في موجات مضاربة، فإن ذلك ينعكس على الاستهلاك، والإنفاق العائلي، وحتى على الثقة العامة في الاستثمار كفكرة.
التعامل مع هذه الظواهر لا يكون بتقييد السوق أو الحد من حرية التداول، بل بفهم السلوك النفسي الذي يقودها، وتطوير أدوات رصد وتحليل تعكس مزاج المستثمرين بدقة، وتساعد على اتخاذ قرارات أكثر توازناً. على سبيل المثال، مؤشرات “معنويات السوق” التي تُستخدم في أسواق عالمية يمكن تطوير نسخة محلية منها، تجمع بين تحليل حجم التداول، ونسب التملك، ونبرة الأخبار والتقارير، وحتى محتوى منصات التواصل الاجتماعي.
التاريخ يثبت أن الفقاعات الاقتصادية جزء لا يتجزأ من طبيعة الأسواق بسبب سلوك البشر. لكن الفرق بين سوق تتعافى بسرعة ويعود لنشاطه، وسوق تترك خلفها أضرار طويلة الأمد، يكمن في وعي الناس الجماعي وقدرتهم على فهم وتحليل المؤشرات المبكرة التي تنذر بالمشاكل. ما يجعل قصة التوليب مهمة ليس لأنها زهرة نادرة، بل لأن أرقام السوق ليست مجرد بيانات عابرة تتحرك على الشاشة، بل تحمل خلفها قصصاً وأحداثاً إنسانية تعكس عقلية المجتمع في التعامل مع المخاطرة، وتبرز الخوف والطموح في كل قرار استثماري.
ربما نبتسم اليوم ونحن نقرأ عن من باع بيته مقابل بصلة توليب، لكن التاريخ سيبتسم بالطريقة نفسها إذا رأى كيف اشترى البعض أسهماً بلا أساس، لمجرد أن الجميع كان يشتري. الفرق الوحيد هو أن أبطال قصتنا ليسوا في هولندا القرن السابع عشر، بل هنا… الآن.