لماذا لا تكترث البنوك المركزية بارتفاع عوائد السندات طويلة الأجل؟
(القبس)-13/06/2025
عندما خفض البنك المركزي الأوروبي معدلات الفائدة إلى 2% منذ أسبوع أكد أنه «في موقع جيد» لمواجهة الظروف غير المؤكدة، التي قد تطرأ خلال الأشهر المقبلة. ولاحقاً اشتكى دونالد ترامب من أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي ليس في وضع جيد للتعامل مع أي نزوة سياسية تعجبه.
وسيتجاهل الاحتياطي الفيدرالي هذا الانتقاد الجديد، إلا أن ما يصعب تجاهله هو الارتفاع الحاد في عوائد السندات طويلة الأجل في العديد من الاقتصادات المتقدمة، فقد صعدت العوائد إلى أعلى مستوياتها منذ عقود في اليابان والمملكة المتحدة، وقد واجهت الحكومتان الأمريكية واليابانية في بعض الأحيان صعوبة في بيع الديون طويلة الأجل.
وبينما كانت عوائد السندات الأمريكية ترتفع تراجع الدولار، ما يشير إلى نوع من المقاومة من جانب المستثمرين للأصول الأمريكية، فهل تأتي هذه التحركات في تكاليف الاقتراض الحكومي انعكاساً لما يسمى قانون «الضرائب الكبير والجميل»، الذي أقره مجلس النواب الأمريكي؟ وهل تتأثر ديون الدول الأخرى بخطر العدوى من الولايات المتحدة.
حيث تسير السياسة المالية باتجاه الخروج نطاق السيطرة؟ أم أن هذا كله مجرد تطبيع بعد مرحلة شاذة من انخفاض غير معتاد في عوائد السندات الحكومية؟ لا يستطيع أحد حتى الآن الجزم بالإجابات، فالاستدلال من تغيرات الأسعار ينطوي دائماً على مخاطر، لذا سأطرح سؤالاً أبسط: ما الذي ينبغي على محافظي البنوك المركزية فعله تجاه ارتفاع عوائد السندات طويلة الأجل إن وجد؟
من المؤكد أن التيسير الكمي قد صمم خصيصاً لخفض معدلات الفائدة طويلة الأجل، من خلال خلق السيولة، وزيادة الطلب على السندات الحكومية طويلة الأجل، وبالتالي فإن تأثيرات سياسات ميزانيات المصارف المركزية مهم.
رغم ذلك ينبغي أن يكون التفكير الافتراضي أن الطلب الاستثماري، هو ما يحكم الطرف البعيد عن منحنى العائد على السندات الحكومية، في حين أن السياسة النقدية تتحكم بالطرف القصير منه.
وتحركات عوائد السندات طويلة الأجل تعد مؤشراً مهماً على معنويات المستثمرين، ومن الخطورة التدخل فيها إلا في حال حدوث أزمة اقتصادية.
وهناك أسباب تدعو البنك المركزي الذي يستهدف التضخم إلى التدخل والقلق بشأن ارتفاع عوائد السندات الحكومية طويلة الأجل.
ويشير تردد المستثمرين إلى فقدان الثقة بقدرة البنوك المركزية على السيطرة على التضخم.
وحسب بيانات الصادرة من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا واليابان فمن الواضح أنه لا توجد مشكلة تذكر، إذ لا يبدو أن المستثمرين قلقون حالياً من أن التضخم سيكون الآلية الافتراضية، التي ستستخدمها الحكومات لتقليص ديونها.
وتختلف مستويات التضخم المتوقعة بين دولة وأخرى، غير أن هذا يعود في الأغلب إلى الفجوة بين مؤشر الأسعار المستخدم في السندات المرتبطة بالتضخم، والمؤشر الذي تستهدفه المصارف المركزية.
وبالتالي يمكننا أن نستبعد القول إن المصارف المركزية فقدت مصداقيتها مبرراً للتغير الأخير في عوائد السندات.
وهناك مصدر قلق ثانٍ يُمكننا تجاهله هو الآخر، وهو أن ارتفاع عوائد السندات طويلة الأجل ناجم عن عدوى قادمة من الولايات المتحدة، فالعلاقة الترابطية بين عوائد السندات في الدول المختلفة ليست وثيقة بالدرجة التي تدعو للقلق.
وعلى سبيل المثال ارتفعت عوائد السندات الألمانية طويلة الأجل في مارس بعد إعلان حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، بزعامة فريدريش ميرتس فوزه بالانتخابات الفيدرالية، وتوقع المستثمرون زيادات كبيرة في الإنفاق على الدفاع والبنية التحتية، أما في اليابان فقد ارتفعت العوائد، بسبب توقف شركات التأمين على الحياة عن شراء السندات طويلة الأجل، بعدما استوفت متطلبات الملاءة المالية المحلية.
والترابط بين تحركات عوائد السندات، سواء في الأجل القصير أو الطويل، كان بعيداً عن الكمال، فمنذ تنصيب ترامب ظلت عوائد السندات في أوروبا والولايات المتحدة مستقرة أو متراجعة حتى أجل 10 سنوات، في حين ارتفعت في اليابان، ما يعكس في الأغلب التغيرات المتوقعة في أسعار الفائدة، وقد ارتفعت عوائد السندات لأجل 30 عاماً في كل مكان، لكن هذه الارتفاعات كانت متواضعة من الناحية الموضوعية.
وبمتابعة تحركات العوائد منذ «يوم التحرير» فإن الولايات المتحدة تظهر حالة استثنائية طبيعية، حيث ارتفعت العوائد عبر جميع الآجال، وفي المقابل تراجعت عوائد سندات الـ30 عاماً في منطقة اليورو، لذا لا ينبغي لأحد أن يتحدث بثقة عن «تأثيرات عدوى» قادمة من الولايات المتحدة، كما لا يجوز للمصارف المركزية استخدام هذا الادعاء مبرراً لخفض معدلات الفائدة.
السبب الثالث، الذي قد يدفع المصارف المركزية إلى التدخل، فهو تخفيف الأوضاع المالية في حال أصبحت أكثر تشدداً بفعل ارتفاع عوائد السندات طويلة الأجل، وهنا ينبغي التريث، فالأوضاع المالية في الولايات المتحدة، وفقاً لمؤشر الاحتياطي الفيدرالي في شيكاغو، شهدت بعض التشديد بعد «يوم التحرير»، لكنها تراجعت لاحقاً.
وقالت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد، إنها تراجعت بشكل مماثل في أوروبا، ما أدى إلى ارتفاع أسعار الأسهم، وانخفاض هوامش سندات الشركات، وانخفاض أسعار الفائدة على الشركات.
وفي المملكة المتحدة قالت نائبة محافظ بنك إنجلترا للاستقرار المالي سارة بريدون للبرلمان، إن ارتفاع أسعار السندات طويلة الأجل «لا يهم كثيراً من منظور السياسة النقدية»، لأن «أسعار الفائدة المهمة للشركات والأسر هي في الطرف الأقصر»، وهي محقة تماماً، لكن رأيها يثير تساؤلات حول سبب إقدام بنك إنجلترا على المخاطرة وخسارة مليارات الجنيهات في شراء كميات ضخمة من السندات طويلة الأجل في برنامج التيسير الكمي الخاص به، رغم أنه، بحسب قولها، «لا تهم كثيراً» بالنسبة للاقتصاد البريطاني.
السؤال الآن هو: هل ينبغي على المصارف المركزية ألا تتدخل طالما أن الاستقرار المالي لا يواجه تهديداً فعلياً؟ والجواب في الأغلب هو «نعم»، ينبغي ألا تفعل شيئاً، فهذه في المقام الأول مشكلة مالية، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن السندات طويلة الأجل أصبحت أقل جذباً للمستثمرين، ومن جهة أخرى لم تعد صناديق التقاعد بحاجة إلى أصول جديدة طويلة الأجل بالقدر نفسه، مع نضوج خططها، وهو ما أدى إلى انخفاض الطلب عليها.
وبالنسبة للحكومات فإن هذا التراجع في الطلب يأتي للأسف في وقت تسعى فيه إلى إصدار كميات كبيرة من الديون الجديدة، وقد يكون من المنطقي أن تُجري البنوك المركزية بعض التعديلات على برامج التشديد الكمي، فتقلص قليلاً من حجم السندات طويلة الأجل، التي تطرحها في السوق، غير أن بنك إنجلترا وحده هو من ينخرط حالياً في مثل هذا النوع من العمليات، والأرقام المتداولة تظل محدودة التأثير.
وبدلاً من الاعتماد على تدخل البنوك المركزية فإن على الحكومات أن تضبط العجز المالي إذا أرادت خفض تكاليف الاقتراض على المدى الطويل، وقد يكون من الحكمة أيضاً في هذه المرحلة أن تقلص إصدار السندات طويلة الأجل إلى حين استعادة ثقة الأسواق بأوضاعها المالية العامة، ومع ذلك تبقى هذه الإجراءات مؤقتة، أما الحل الدائم، والمتمثل في بناء أوضاع مالية عامة أكثر متانة، فلا يزال بعيد المنال.