لماذا لا يقاوم قادة المال والأعمال تدخلات ترامب المتكررة؟
(البيان)-01/09/2025
أثار فوز زهران مامداني الساحق في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي لمنصب عمدة نيويورك في يونيو الماضي موجة غضب عارمة في أوساط «وول ستريت» ووادي السيليكون. وجاء هذا الاستياء رداً على وعوده الانتخابية بتوفير خدمة حافلات مجانية، وتجميد زيادات الإيجارات، وإطلاق شبكة من متاجر البقالة المملوكة للمدينة.
وسارع عدد من كبار المستثمرين ورجال المال، من بينهم المليارديران العاملان بمجال صناديق التحوط بيل أكمان ودان لوب، إلى جانب جيمي دايمون الرئيس التنفيذي لـ «جيه بي مورغان تشيس»، وبريان أرمسترونغ الشريك المؤسس لمنصة «كوين بيس»، إلى التحذير من المخاطر التي قد تترتب على هذا المستوى من التدخل الحكومي في اقتصاد المدينة.
أما ديفيد سولومون، الرئيس التنفيذي لـ«غولدمان ساكس»، فقد استغل حسابه على منصة «لينكد إن» في توجيه الانتقادات لمقترح مامداني بمنع زيادة الإيجارات التي تسيطر عليها المدينة. وكتب: «حينما حاولت نيويورك فعل ذلك في عشرينيات وستينيات القرن الماضي، فقد تسببت في الحد من المساكن ميسورة التكلفة، وقلصت من الاستثمار في تشييد الإسكان الجديد، وجعلت من السكن خارج المنطقة التي تسيطر عليها أكثر تكلفة».
غير أن ردود الفعل على مدى الأسابيع القليلة الماضية كانت مختلفة تماماً، عندما كشف الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، مجموعة من التدخلات في نظم العمل في كل من النظام المالي وعمليات الشركات الخاصة. فمساء الاثنين الماضي، أعلن ترامب إقالة ليزا كوك، عضوة مجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي، وكان القرار ضمن حملة أوسع نطاقاً من جانب إدارته لفرض سيطرة سياسية أكبر على المصرف المركزي، مع ضغوط قوية من جانب الرئيس لخفض أسعار الفائدة.
ويوم الجمعة، أعلنت الإدارة الأمريكية استحواذها على حصة قدرها 10% بشركة «إنتل» المصنعة للرقائق، مستخدمة في ذلك أموالاً كانت مخصصة إبان إدارة الرئيس السابق جو بايدن، بهدف تعزيز التصنيع. ووافقت «إنتل» على الصفقة بعد أسبوعين من دعوة ترامب الرئيس التنفيذي للشركة، ليب-بو تان، للاستقالة من منصبه.
وصرح وزير التجارة هوارد لوتنيك الأسبوع الماضي، بأن الإدارة ستعمل على دراسة الاستحواذ على حصص في شركات متخصصة في الدفاع والذخيرة. ومن المقرر أن تحصل الإدارة الأمريكية على نسبة من الأرباح التي تجنيها كل من «إنفيديا» و«إيه إم دي» من بيع الرقائق إلى الصين، وتفاوضت كذلك للحصول على «أسهم ذهبية» في شركة «يو إس ستيل».
أما «كراكر باريل»، وهي سلسلة مطاعم تقدم أطعمة بالطابع الجنوبي بطول الطرق السريعة الأمريكية، فقد أعلنت الثلاثاء الماضي تخليها عن جهود تغيير العلامة التجارية بعدما تعرضت لانتقادات من جانب الرئيس وحلفائه لكونها تتبع ثقافة «الووك»، وبذلك، تعمل الشركة حالياً على استعادة شعارها الأصلي المعروف باسم «أولد تايمر».
ومع ذلك، وبينما صعّد ترامب وتيرة انتقاداته الموجهة للفيدرالي، لم يصدر عن قادة وول ستريت إلا انتقادات محدودة. وبينما ترقى الكثير من تدخلاته في الشركات إلى شكل من أشكال التوجيه على غرار الطابع الأوروبي، الذي سخرت منه نخبة الأعمال الأمريكية يوماً ما، إلا أن ردود الفعل على أجندة ترامب كانت أقرب ما تكون إلى الصمت. بل لقد أثنى بعض قادة الأعمال على محاولات الرئيس لتوجيه الاقتصاد.
وبالنسبة لساتيا نادالا، الرئيس التنفيذي لشركة «مايكروسوفت»، التي لطالما كانت واحدة من أبرز عملاء «إنتل»، فقد أشاد بـ «الاستراتيجية الجريئة للرئيس لإعادة بناء هذه الصناعة الحيوية على الأراضي الأمريكية». وقال تايلور بودوفيتش، نائب رئيس موظفي البيت الأبيض، بأن «كراكر باريل» أجرت اتصالاً هاتفياً لتوجيه الشكر لترامب على «إدلائه برأيه» في عملية تغيير العلامة التجارية.
وقال في منشور على منصة «إكس»: «كانوا يرغبون أن يعرف الرئيس أنهم أنصتوا إلى رأيه». ويعد تناقض المواقف هذا صارخاً عند مقارنته بما حدث لمامداني، فقد قوبل المرشح الأوفر حظاً للفوز بعمودية نيويورك بانتقادات لاذعة من جانب قادة الأعمال، بينما لاقت إعادة تشكيل الرئيس لقواعد اقتصاد السوق في الولايات المتحدة ضبطاً محسوباً للأنفاس.
وهناك العديد من الأسباب وراء هذا التحفظ، ما بين الازدهار الذي تشهده الأسواق المالية، وحتى الآمال في أن الإقناع في الغرف المغلقة يعد تكتيكاً أفضل مع هذا الرئيس مقارنة بالمشادات على الملأ. لكن العديد من الرؤساء التنفيذيين والمستشارين، يرون أن التفسير الأساسي والحقيقي يكمن في الخوف، إذ يعتقدون أن توجيه النقد لترامب محفوف بالمخاطر.
وعلق إيليا سومين، أستاذ القانون في جامعة جورج ماسون والباحث في معهد كاتو الليبرتاري: «إنهم أكثر خوفاً من الرجل الموجود على رأس السلطة بواشنطن مقارنة بالعمدة المحتمل لمدينة نيويورك». وتابع: «حتى إذا ما أصبح مامداني عمدة لنيويورك، فلن يحوز حجم السلطة التي يتمتع بها رئيس الولايات المتحدة». وفي ضوء الصمت النسبي من جانب قادة المال والأعمال تجاه تدخلات الرئيس، لم تصدر عن الأسواق إلا ردود فعل هادئة.
بل لم يرمش جفن بالكاد للأسواق، بعدما أعلن ترامب إقالة كوك بسبب ادعاءات لا أساس لها بشأن احتيال في الرهن العقاري، فقد ارتفعت سندات الخزانة الأمريكية لأجل عامين، وشهدت سندات الخزانة لأجل 30 عاماً بيعاً كثيفاً، وازداد منحنى العوائد انحداراً، غير أن التحركات كانت معتدلة، وواصلت الأسهم مكاسبها.
ورفضت كوك، وهي أول امرأة ذات بشرة سمراء تتولى هذا المنصب في مجلس محافظي الفيدرالي، التنحي عن منصبها، ورفعت دعوى قضائية للطعن على قرار إقالتها، معربة عن أن القرار انتهاك لحقوقها الدستورية.
وذكر روبين بروكس، الزميل لدى معهد «بروكينغز»، أن سوق الصرف الأجنبي كانت أكثر اهتماماً بالكلمة التي ألقاها جيروم باول، رئيس الفيدرالي، أخيراً خلال مؤتمر «جاكسون هول» الذي شهد حضور مسؤولي المصارف المركزية، حينما تحدث عن احتمالية خفض أسعار الفائدة، مقارنة بتأثرها بقرار إقالة كوك.
وأوضح أن الأسواق تركز على الإشارات بشأن الفائدة على المدى القريب بدلاً من الضرر الواقع على مصداقية الفيدرالي على المدى البعيد. وأسهب: «الأسواق واعية تمام الوعي بأن الفيدرالي يتخذ منحى تيسيرياً من جديد بفعل ضغوط جمة من جانب البيت الأبيض».
وقال بعض خبراء الاقتصاد إنهم يتوقعون رداً قوياً من جانب المستثمرين في سوق السندات الذين عادة ما ينتقدون التدخلات الحكومية السافرة. وينظر بعض المستثمرين إلى ردود الفعل الهادئة على أنها دليل على نموذج جديد، يطلق عليه «هيمنة المالية العامة»، حيث تخضع سياسة المصرف المركزي لسياسات الدولة.
ولفت بروكس إلى أن الأسواق تتصرف على النحو المتوقع «إذا افترضت أن السياسة النقدية التيسيرية الداعمة للسياسة المالية المفرطة ستسهم في ترسيخ التضخم»، مشيراً إلى البيع الكثيف الذي تشهده سندات الخزانة طويلة الأجل وارتفاع كل من الذهب وعملة «البتكوين»، وهي أدوات شائعة للتحوط من التضخم. وأضاف: «لا تغير إقالة ليزا كوك شيئاً، فهي تأكيد لما كنا نتوقعه».
وبالنسبة لجيمس بيانكو، رئيس شركة «بيانكو ريسيرش»، فيعتقد أن غياب ردود الأفعال ليس مفاجئاً. وتساءل: «ما الذي يستدعي صدور رد فعل؟ فالفيدرالي سيخفض الفائدة سواء أكانت كوك في مجلس المحافظين أم لا». واستطرد: «لن يكن هناك أي رد فعل من جانب الأسواق إلا إذا نصب ترامب نجله إريك رئيساً للفيدرالي».
وذهب ستيفن غراي، من «غراي فاليو مانجمنت»، إلى أن هدوء الأسواق لا يعني دعمها لترامب. وقال: «لا تحتاج سوق السندات إلى الاستجابة على الفور»، ومضى: «بات المستثمرون وكأنهم فقدوا الإحساس، وهو رد فعل طبيعي ومنطقي.
كذلك، فإن الضمانات المقدمة إلى كوك قوية، حتى عندما نضع في الاعتبار تأثير ترامب على المحاكم». في الوقت نفسه، يحذر البعض من أن التركيز قصير الأجل على الفائدة يتجاهل حقيقة أن ترامب يدفع باتجاه تغيير جوهري للطريقة التي يدار بها الاقتصاد الأمريكي. فهل سنشهد أي مقاومة لتحركات ترامب؟
يتمثل العائق الأكبر في تنسيق صفوف المعارضة من جانب كبار الجمهوريين في الكونغرس الأمريكي، والذين يعتبر الكثير منهم أنفسهم مدافعين عن مصالح الشركات. لكن لم تكن هناك سوى بضعة مؤشرات على وجود انتقادات علنية من جانب قادة جمهوريين سواء لهجمات ترامب ضد الفيدرالي أو تدخلاته في مصالح الأعمال.
ويثير الأمر سخرية الديمقراطيين. كما صدرت بعض الانتقادات من جانب مفكرين جمهوريين وليبرتاريين ممن أدانوا بأشد العبارات تدخل ترامب في كيفية إدارة الشركات، مثلما حدث مع «إنتل».
وكتب جويل غريفيث، كبير الزملاء لدى منظمة «أدفانسينغ أميريكان فريدوم»، على حسابه في منصة «إكس»: إن «السهم الذهبي تأميم جزئي لـ «يو إس ستيل» من خلال تقويض أساس حزمة العصي الذي تركن إليه الملكية الخاصة». أما العامل الآخر، فيتمثل في معارضة من بعض من أبرز الشخصيات في وول ستريت.