لماذا لم تعد الطروحات الأولية مقياساً لصحة الاقتصاد؟
(البيان)-17/06/2025
يتمتع الكثير من السياسيين، بغض النظر عن توجهاتهم الأيديولوجية، بقدرة استثنائية على إساءة فهم ديناميكيات القطاع المالي، لا سيما حين يسعون إلى توظيفه لخدمة أجنداتهم الخاصة. ولنأخذ، على سبيل المثال، ريتشل ريفز وزيرة الخزانة في حكومة حزب العمال البريطاني، التي تطالب، شأنها في ذلك شأن سلفها المحافظ جيريمي هنت، بإصلاحات تنظيمية أكثر دعماً للنمو، وهو مطلب يتردد صداه في أروقة صناع السياسات حول العالم.
واتفقت ريفز وهنت على دعوة صناديق التقاعد البريطانية إلى ضخ مزيد من رؤوس الأموال في الأسواق الخاصة المحلية، وأعربا عن قلقهما حيال التراجع الملحوظ في عدد الطروحات العامة الأولية للأسهم. غير أن هذا القلق، في جوهره، يعكس قصوراً عميقاً في فهم آليات عمل النظام المالي.
إن التاريخ الطويل يُظهر أن تخفيف القواعد التنظيمية المالية، قد يكون وصفة محتملة للانهيارات النظامية. كما أن تدخل الحكومات في كيفية تخصيص صناديق التقاعد لأصولها، ينطوي على مخاطر جمة، غير أن جوهر الإشكالية يبقى منبعه هو الفهم الخاطئ لطبيعة النظام المالي، كما يتجلى في قلق الساسة من تراجع عدد الطروحات الأولية.
وفي «الماضي الجميل»، كانت البورصات مؤسسات وطنية عظيمة، وكانت الطروحات الأولية تمثل خطوة تقليدية لتمويل التوسع والاستثمار. لكن هذا النموذج اندثر، تماماً كما اندثرت آلات الفاكس وأشرطة الكاسيت.
ولم تعد أسواق الأسهم في الدول المتقدمة، منذ سنوات، مصدراً رئيساً للتمويل. وكما أوضح الاقتصادي جون كاي في مراجعته لأسواق الأسهم البريطانية عام 2012، فإن تلك الأسواق يجب أن ينظر إليها على أنها وسيلة لإخراج الأموال من الشركات، لا إدخالها إليها.
وعلى الرغم من الانكماش النسبي للأسواق العامة، فإن الوصول إلى رأس المال ليس مصدر قلق كبير، لأن الأسواق الخاصة قد تضخمت. ومع توفر رأس المال الخاص بكثرة، لا يوجد سبب مقنع للشركات للطرح العام، سوى إرضاء الداعمين الماليين والمساهمين.
والتراجع في الطروحات الأولية هو ظاهرة عالمية، وهو يعكس في جوهره انخفاض كثافة رأس المال في الاقتصادات القائمة على المعرفة. أما القلق السياسي في لندن من خسارة حصة سوق الطروحات الأولية لصالح نيويورك، فلا يعدو كونه نزعة تجارية بدائية متوارثة، ولا يحمل تأثيراً يُذكر في إنتاجية الاقتصاد البريطاني، كما أن الضعف الملحوظ في قطاع التكنولوجيا البريطاني، لا يرجع في المقام الأول إلى خيارات مكان الإدراج، أو هيكل سوق رأس المال.
والنقطة الأهم التي يجب أن يلتفت إليها السياسيون، هي أن الدور الحيوي لأسواق الأسهم الأولية اليوم، يتمثل في جمع رأس المال لصالح شركات مسعرة أصلاً. وفي أمريكا وبريطانيا وغيرها من الاقتصادات الكبرى، يعتمد النمو على الديون، في وقت تقترب فيه مستويات الدين العام من المستويات التي شهدناها في أوقات الحروب. لذا، فإن أسواق الأسهم تبقى ضرورية لتعزيز الملاءة المالية للشركات، وتسهيل عمليات خفض الديون عند وقوع أزمات اقتصادية دورية، وهي غالباً ما تكون نتيجة تحرير مفرط للأسواق المالية.
ومع ذلك، فإن السياسيين ليسوا على خطأ تماماً، حين يدعون صناديق التقاعد إلى دخول الأسواق الخاصة، فهي اليوم الحاضنة الأساسية للابتكار في مجالات مثل التكنولوجيا الحيوية والتغير المناخي والذكاء الاصطناعي.
ويتمثل العائق المفترض في أن أسهم الشركات الخاصة غير سائلة، أي يصعب بيعها وشراؤها بسرعة.
لكن الأعضاء في برامج وخطط التقاعد المحددة المساهمات، لا يحتاجون إلى السيولة حتى اقتراب سن التقاعد، كما أن التعرض للأسهم الخاصة المحلية، يوفر لهم تنويعاً قيماً للاستثمار في صناديق الأسهم السلبية التي تعاني من التركيز المفرط في الأسهم الأمريكية، وخاصة شركات التكنولوجيا الكبرى.
ومع ذلك، ومن منظور اقتصادي أوسع، ينطوي غموض الأسواق الخاصة على خطر سوء تخصيص رأس المال. وتكون أرقام الأداء مضللة، بسبب المكاسب الهائلة التي حققتها الأسهم الخاصة من الاستثمارات الممولة بأسعار فائدة منخفضة بشكل غريب، بعد الأزمة المالية التي اختفت الآن.
واليوم، يواجه مديرو صناديق الاستثمار الخاص صعوبة في تصفية شركاتهم، وتحقيق العوائد للمستثمرين، ما أدى إلى لجوئهم إلى التمويل المؤقت، من خلال سوق الائتمان الخاص. وبحسب الاقتصاديَين ليونور بالادينو وهاريسون كارلويتز، فإن صناديق الائتمان الخاصة- التي تشهد نمواً سريعاً- تُشكل خطراً نظامياً محتملاً، نظراً لاعتمادها على تمويل البنوك، وضعف سيولة القروض، وغموض شروط التمويل، وعدم تطابق آجال الاستحقاق مع احتياجات المستثمرين للسحب. كما أن هذا السوق لم يُختبر بعد في بيئة ركود اقتصادي حقيقي.
والدرس الذي يجب على السياسيين تعلمه، هو أن المساهمة الإنتاجية الحقيقية في الاقتصاد لنظام مصرفي يعمل بشكل جيد، تكمن في التسعير الدقيق لمخاطر الائتمان والسيولة. وكما أظهرت الأزمة المالية العالمية، التي أعقبت سنوات من سوء تسعير المخاطر، فإن الاقتصاد المثقل بالديون، سيظل رهينة للمخاطرة المفرطة في التمويل.
لذلك، يجب أن يكون الهدف الرئيس لصناع السياسات، هو تقليص هذه الهشاشة النظامية باهظة التكلفة اقتصادياً، والتعامل بحذر بالغ مع نداءات المصرفيين وجماعات الضغط التجارية، من فرض تنظيمات «مرنة»، بحجة دعم النمو، لأن الفوائد التي يمكن أن يجنيها دافعو الضرائب والمستثمرون والمدخرون من نظام مالي منضبط، تفوق بكثير أي مكاسب قد تتحقق من تدخل السياسيين في أموال التقاعد الخاصة بالآخرين.