لماذا يظل الإبداع البشري عصيّاً على الذكاء الاصطناعي؟
(البيان)-03/09/2025
لست من كبار المتحمسين للتقنيات الحديثة، لكنني، مثل كثيرين، تحركني المصلحة الاقتصادية، خصوصاً وأنا أعمل تحت ضغط شديد لإنجاز مشروعي الكتابي المقبل. من هنا قررت أن أستغل الفرصة لاختبار حدود ما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقدمه – أو ما يعجز عن تقديمه – في مجال التأليف.
وتساءلت: هل يمكن أن أستعين بالذكاء الاصطناعي لكتابة جزء من كتابي؟ وهل سيتمكن القراء من تمييز الفارق؟ الجواب المباشر: كلا، لا يمكن ذلك للذكاء الاصطناعي – ونعم، سيلحظ القراء الاختلاف بلا شك.
وبينما يتنفس محرري الصعداء، أستطيع القول إن تجربتي في اختبار الحدود الأدبية للذكاء الاصطناعي قادتني إلى خلاصات أكثر تعقيداً حول متى وكيف، بل وما إذا كان ينبغي للكُتّاب أن يفكروا أصلاً في استخدام هذه التقنية.
فخلال الأسابيع القليلة الماضية، عكفت على إجراء تجارب لاختبار ما يمكن لـ «تشات جي بي تي» فعله إبداعياً – وما لا يمكنه فعله – من خلال التظاهر بأنه أنا. ورغم أن هذه التقنية تشهد تطوراً مستمراً، إلا أن ما لمسته حتى اللحظة عزز قناعتي بأن وظيفتي ككاتب عمود رأي، وهي مهنة تتضمن إلى جانب جمع وتحليل البيانات، إضافة طابعي الشخصي وحساسيتي العاطفية والقسط الوافر من العمل الميداني، لن تتعرض للإقصاء التكنولوجي، على الأقل في المدى المنظور.
وقد فتحت لي هذه التجربة أيضاً آفاقاً جديدة لإمكانات التعاون الوثيق بين الإنسان ونموذج لغوي ضخم، ذلك التعاون الذي قد يثمر نتاجاً يفوق ما يمكن لأي من الطرفين تحقيقه منفرداً.
بدأت التجربة بمنح «تشات جي بي تي بلس» خارطة طريق للعمل التعاوني على كتاب، وهو قالب طوره صديق يعمل في مجال التكنولوجيا ويجري بدوره تجارب على القدرات الإبداعية للذكاء الاصطناعي. وقد أوضح هذا القالب، بالتفصيل، ما هي الكتابة السردية الطويلة وكيفية تطوير أفكار الكاتب القائمة أو البناء على أعماله السابقة. وباعتباري شخصاً لم يستعن بالذكاء الاصطناعي إلا نادراً، ولم أوظفه قط في مساري المهني، فقد صعقت من حجم التحضير الضروري لمجرد جعل «تشات جي بي تي» يستوعب المبادئ الأساسية.
صحيح أن نماذج اللغة الكبيرة قادرة على تقديم إجابات دقيقة لأسئلة محددة، لكنها لا تمتلك بالضرورة فهماً لكيفية الوصول إلى النبرة والأسلوب والصراع الدرامي أو الإبداع، ولا تملك القدرة على الاستفادة من المصادفة، وكلها عناصر جوهرية في الكتابة الجيدة.
لقد استغرق الأمر نحو 48 ساعة حتى ينتج «تشات جي بي تي» مسودة أولى للفصل الافتتاحي، بعد أن «التهم» نماذج عدة من أعمالي التي تمتد على مدار 33 عاماً، إلى جانب مقترح تفصيلي للكتاب يتضمن حواشي توضيحية، ومخططاً لفصول الكتاب، وتسجيلات صوتية للمقابلات مع مصادر، وقراءات خلفية وفيرة قمت أنا باختيارها.
لكن، للأسف، ما تلقيته كان بمثابة نسخة أقرب ما تكون إلى الموسيقى التي تسمعها في المصاعد والمراكز التجارية «من أسلوبي – معالجة مسبقاً، دقيقة نسبياً، لكنها خالية تماماً من الإلهام والإبداع». وكانت النتيجة مضحكة ومحبطة في آن واحد.
النص أيضاً تضمن تفاصيل كاشفة حول كيفية عمل هذا النموذج. فهو أولاً متملق. ففي الأيام الأولى، عندما كنت متحمسة للإمكانات، أصبح ودوداً جداً معي، بل وأطلق نكاتاً حول موضوع الكتاب. لاحقاً، بعدما أخبرته بأنه «مفصول» (على الأقل كشريك في التأليف)، استحال أسلوبه إلى السطحية، بل، إن جاز التعبير، إلى نبرة كئيبة. وكل ذلك كان انعكاساً لي أنا، وهو ما يدفعني للاعتقاد بأنه يمكن أن يكون للذكاء الاصطناعي مستقبل أفضل في العلاج النفسي، لا في الكتابة الإبداعية.
ولا ريب أن هذه التقنية تؤدي أداءً جيداً في تلخيص المعلومات (كاستعراض أهم عشرة أبحاث علمية في مجال محدد أو تجميع البيانات الأكثر اقتباساً في حقل معرفي بعينه).
وتتفوق بشكل خاص في رصد الأنماط، حيث زودتني بإجابات قيمة لاستفسارات على شاكلة: «ما الفوارق والقواسم المشتركة الجوهرية بين صراعات القوى العظمى في القرن التاسع عشر والمواجهات المعاصرة بين الولايات المتحدة والصين وروسيا؟»، لكن، عندما طلبت من الذكاء الاصطناعي توثيق المصادر وبدأت أتعمق فيها، أدركت كم التفاصيل الدقيقة التي تضيع حين لا تقرأ النصوص الأصلية.
وليس مفاجئاً أن تقضي ساعة مع كتاب بيتر هوبكيرك «اللعبة الكبرى: الصراع على الإمبراطورية في آسيا الوسطى»، فتخرج بفهم أعمق بكثير لهذا الموضوع المعقد، مقارنة بأيام تقضيها في التفاعل مع «تشات جي بي تي».
وقد أكدت أبحاث صادرة عن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا هذه الملاحظة، استناداً إلى دراسة شملت 54 كاتباً عملوا إما بمفردهم، أو بمساعدة محركات البحث، أو باستخدام الذكاء الاصطناعي. وتبين أن المقالات المكتوبة بالاستعانة بنماذج اللغة الكبيرة افتقرت إلى وجهات نظر أصلية، ولم تترك أثراً في الذاكرة بالطريقة نفسها التي تفعلها الكتابات التقليدية.
وثمة إحصائية لافتة، وهي أن 83 بالمئة من مستخدمي الذكاء الاصطناعي لم يتمكنوا حتى من تذكر اقتباس واحد من أعمالهم. كما أظهرت فحوصات الدماغ أن الكُتّاب الذين استخدموا أفكارهم الذاتية فقط سجلوا مستويات أعلى من الترابط العصبي بين مناطق متعددة من الدماغ، مقارنة بمن استخدموا البحث عبر الإنترنت، وأدنى درجات الترابط ظهرت لدى من استخدموا الذكاء الاصطناعي.
وربما كان أبرز ما استخلصته من تجربتي مع الكتابة المدعومة بالذكاء الاصطناعي هو عجز «تشات جي بي تي» التام عن مقاربة جوهر التجربة الميدانية الصحفية. فقد زودت النموذج اللغوي بساعات من التسجيلات المفصلة لمقابلات أجريتها بنفسي، تضمنت إجابات عدد من الشخصيات المختلفة، لكنه لم يكن لديه أدنى فكرة عما هو جوهري، أي اللحظات التي تكشف فعلياً عن جوانب خفية في شخصية المتحدث، أو التي تتناغم مع محور سردي أوسع.
وكما يعلم كل كاتب جيد، فإن بعض أفضل المواد الصحفية تأتي من لحظة واحدة غير متوقعة خلال هذه التفاعلات، كأن يشيح أحدهم ببصره أثناء الإجابة عن سؤال، أو أن تصدر منه ضحكة تحمل الكثير من الدلالات.
مثل هذه اللحظات لا يمكن برمجتها ضمن أنماط قابلة للتعرف، لكنها قادرة على أن تصنع من العمل تحفة أدبية. إنها جزء من التجربة الحسية التي نعيشها في العالم الحقيقي. وهذه، على الأقل في الوقت الراهن، لا تزال حكراً على البشر.