«مكابح الديون» الألمانية قد تزعزع أسواق السندات العالمية
(البيان)-10/02/2025
في أعقاب فوز دونالد ترامب بولاية رئاسية ثانية، يترقب مستثمرو السندات موجة بيع واسعة في الأسواق الأمريكية، لكنهم يمكن أن يغفلوا عن عامل قد يكون أكثر أهمية؟ إنهم يتعين عليهم بدلاً من ذلك تقييم تأثير إصلاحات قواعد «مكابح الديون» في ألمانيا، التي تحدد سقف الإنفاق الحكومي، على استقرار السوق.
وتعد السندات الحكومية الألمانية حجر الأساس لمنطقة اليورو وتمثل معدلاً مرجعياً للمنطقة.
وبطبيعة الحال، كان الطلب على السندات الحكومية الألمانية قوياً للغاية في خضم المخاوف بشأن ركود اقتصاد منطقة اليورو في عام 2019، مما دفع بالعوائد إلى الانخفاض بصورة متناقضة إلى المنطقة السالبة، حتى قبل الدعم الذي قدمته المصارف المركزية لأسواق السندات العالمية إبان جائحة فيروس كورونا.
وتتمتع ألمانيا بأساسيات مالية هي الأفضل ليس فقط في أوروبا وإنما بين كبرى الأسواق العالمية. ويجعل ذلك من السندات الحكومية الألمانية ملاذاً آمناً في الأوقات العصيبة، شأنها شأن سندات الخزانة الأمريكية.
وتذهب النظرية التقليدية إلى أن عوائد سندات الخزانة الأمريكية طويلة الأجل لا تعكس سوى التوقعات بشأن أسعار الفائدة الأمريكية القياسية. لذا، فإن السياسة النقدية وتقديرات معدل الفائدة المحايد، الذي بموجبه لا تكون السياسة النقدية إما متشددة أو مفرطة التيسير، هي كل ما يهم.
لكن هناك وجهة نظر بديلة، تذهب إلى تقييم السندات جزئياً من خلال المعروض النسبي منها.
ومن المهم هنا الإشارة إلى أن السندات الحكومية الألمانية شديدة الندرة، بينما تتمتع سندات الخزانة الأمريكية بالوفرة. ولعل أحد المقاييس المعيارية لصافي المعروض الفائض من السندات هو «التداول الحر»، ويقصد به نسبة السندات المتاحة لمشتريات القطاع الخاص.
وقد تأثر هذا المقياس بشدة جراء نشاط المصارف المركزية في العامين المنصرمين، فتراجع التداول الحر للسندات في بادئ الأمر لكنه بصدد الارتفاع في الوقت الراهن. وعلى مدى العقد الماضي، كان هناك ارتباط واضح بين مقاييس التداول الحر الأمريكية والألمانية، وكذلك الفروق بين عوائد السندات الأمريكية والألمانية لأجل 10 أعوام. ويميل المستثمرون إلى التركيز بصورة أكبر على سندات الخزانة الأمريكية عند توقعهم البيع الكثيف التالي في سوق السندات.
لكنني أعتقد أن حدوث ارتفاع مفاجئ في العوائد الحقيقية للسندات الحكومية الألمانية من شأنه التسبب في زيادة الضغوط على سندات الخزانة الأمريكية، مما سيفاجئ السوق.
وتعد مكابح الديون الألمانية واحدة من أكثر القواعد المالية صرامة على مستوى العالم. فهي تحد من المعروض من السندات الحكومية الألمانية. ولا تستطيع الحكومة الاقتراض حتى حينما تمنح الأسواق ألمانيا الفرصة للاقتراض بأسعار فائدة سلبية على الديون طويلة الأجل.
لكن العمل بموجب مثل هذه القاعدة المالية الصارمة لا يمر دون عواقب، لذلك، فقد بات رئيس المصرف المركزي الألماني المتشدد مالياً داعماً للإصلاحات حالياً.
وقال يواكيم ناغل، رئيس المركزي الألماني، في تصريحات لصحيفة «فاينانشال تايمز»، إن إتاحة مجال مالي أكبر لمعالجة التهديدات الهيكلية، مثل تعزيز الإنفاق الدفاعي وتحديث البنية التحتية للبلاد، سيكون «نهجاً ذكياً للغاية».
ويمكن إصلاح مكابح الديون بطريقتين. وفي الوقت الراهن، لا مجال أمام الحكومة إلا أن يكون لديها عجز هيكلي قدره 0.35 % من الناتج المحلي الإجمالي، ويمكن ارتفاع هذه النسبة إلى 1 % من الناتج المحلي الإجمالي.
ويوجد أمام الحكومة خيار يتمثل في تعليق العمل بمكابح الديون في أوقات الأزمات، لكن المحكمة الدستورية في ألمانيا عارضت الحكومة أخيراً في هذا النهج، مما يعزز صعوبة استخدام بند الاستثناء من الناحية العملية. ومن شأن الإصلاح أن يغير القواعد بشأن التوقيت الذي يمكن فيه استخدام بند الاستثناء.
ومن الناحية النظرية، قد يزيد النوع الثاني من الإصلاح المعروض المستقبلي للسندات الحكومية الألمانية بقدر كبير. ومع ذلك، فإن الحكومات الألمانية تميل إلى أن تكون محافظة مالياً من الناحية العملية. وبغض الطرف عن ماهية التغييرات التي قد تطرأ، فإن إصلاح مكابح الديون سيكون بمثابة عبور نقطة اللا عودة فيما يتعلق بالفضاء المالي لألمانيا.
وفي حين أن الإصلاحات ستزيد صافي المعروض من السندات الحكومية الألمانية، إلا أنها ستكون معتدلة قياساً بالمعايير الدولية. لكن حتى مثل هذه الزيادات المعتدلة للمعروض يمكن أن تؤدي إلى إعادة تقييم هائلة في السوق. وفي النهاية، سيخفف هذا من القيود المفروضة على أوراق مالية شديدة الندرة.
وقد تزامن الإعلان عن الانتخابات الألمانية مع بيع كثيف للسندات الحكومية الألمانية قدره 0.20 نقطة مئوية مقارنة بالفائدة المستخدمة في عقود المبادلة، وهي شكل من أشكال المشتقات المالية. وتعد هذه الفوائد انعكاساً لوجهات النظر في السوق بشأن السياسة النقدية. ويعني هذا أن البيع الكثيف الأخير للسندات الحكومية الألمانية يعكس توقعات بمزيد من الطرح للسندات.
إن إصلاح مكابح الديون يتطلب موافقة أغلبية تتكون من ثلثي أعضاء البرلمان من أجل تعديل الدستور. وتظل إمكانية تحقق هذا غارقة في عدم اليقين في عصر تغلب عليه المفاجآت السياسية.
وبالرغم من درجة عدم اليقين الكبيرة هذه، إلا أن السندات الحكومية الألمانية شهدت بيعاً كثيفاً وشديداً بالفعل. ويشي هذا بأن إصلاحات مكابح الديون سيكون لها تأثير هائل على عوائد السندات الحكومية الألمانية، ومن ثم على أسواق السندات العالمية.
وتواجه الكثير من الاقتصادات المتقدمة تحديات مالية جمة. ومن الصعوبة بمكان اتخاذ إجراءات سياسية لإعادة الديون إلى مسار مستدام، وهو ما تبرهن عليه التطورات الحالية في فرنسا.
وحال تنفيذها، فقد ترفع إصلاحات مكابح الديون عوائد سندات حكومية أخرى، مما سيصعب من تحديات إعادة الديون العامة إلى مسارات مستدامة. ومن المحتمل أن تشهد حتى الولايات المتحدة تداعيات لهذا الأمر.