هل تستطيع أوروبا كسر الهيمنة الاقتصادية الأمريكية قريباً؟
(البيان)-06/05/2025
تشهد الأسواق العالمية حالياً ديناميكية مزدوجة؛ فبينما تثير سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مخاوف متزايدة حيال مستقبل الريادة الأمريكية اقتصادياً ومالياً ومؤسسياً، تشهد أوروبا تحسناً ملحوظاً مدفوعاً باستقرار سياسي وتطورات إيجابية تبعث على التفاؤل بشأن آفاقها الاقتصادية.
وانعكست هذه التحولات بقوة في استطلاع أجراه بنك أوف أمريكا لمديري الصناديق الاستثمارية في مارس الماضي، والذي رصد أكبر تحول تاريخي من الأسهم الأمريكية نحو البورصات الأوروبية. وأثار ذلك تساؤلات حول ما إذا كان عصر الهيمنة الاقتصادية الأمريكية قد بدأ في الأفول. ورغم التحليلات الأخيرة التي تبنت نظرة تشاؤمية تجاه الولايات المتحدة وتفاؤلية حيال أوروبا، إلا أنني أعتقد أن هذه الفكرة مبالغ فيها، وإليكم الأسباب التي تجعل أوروبا عاجزة عن انتزاع الريادة الاقتصادية من أمريكا في المستقبل القريب.
عند النظر إلى معدلات النمو الأساسية، نجد أن حجم التفوق الأمريكي على أوروبا كبير للغاية، حيث كشفت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني أن القدرة على النمو السنوي في أمريكا – مع الأخذ في الاعتبار رأس المال والعمالة والتكنولوجيا – بلغت في المتوسط حوالي 2.5% خلال السنوات الخمس إلى العشر الماضية. أما في منطقة اليورو، فقد كان هذا المعدل أقرب إلى 1%. وجاءت هذه الأرقام قبل تقييم تأثير القرارات السياسية في أمريكا وأوروبا هذا العام.
ومن المؤكد أن أجندة ترامب ستؤثر سلباً على الإنتاجية الأمريكية، حيث ستخلق الرسوم الجمركية أوجه قصور اقتصادية، فيما ستؤدي حالة عدم اليقين السياسي إلى تراجع الاستثمارات الرأسمالية وأنشطة البحث والتطوير، كما أن تشديد القيود على الهجرة واحتمال هروب العقول والكفاءات سيضعف من قوة العمل المتاحة، لكن الخبير الاقتصادي أندرو كينينغهام، المتخصص في الشأن الأوروبي بمؤسسة كابيتال إيكونوميكس، يؤكد أن الدمار الذي قد يخلفه الرئيس الأمريكي يجب أن يكون هائلاً تماماً حتى يُمحى التفوق الهيكلي للاقتصاد الأمريكي.
وفي معادلة القوى الإنتاجية، تملك أوروبا ورقة رابحة في حجم القوى العاملة، بينما تحتفظ أمريكا بالصدارة في رأس المال بشقيه المادي والمالي، إلا أن السر الحقيقي وراء تفوق واشنطن يكمن في «الإنتاجية الكلية»، أي مدى الكفاءة في استخدام هذه المدخلات. وقد تشهد أوروبا طفرة نمو مؤقتة إذا تدفقت إليها رؤوس الأموال الباحثة عن ملاذ آمن جديد، لكن هذا السيناريو يصطدم بجدار الفرص الاستثمارية المحدودة في أوروبا.
ويبقى السؤال: هل يملك ترامب القدرة على تدمير هذه الميزة التنافسية الأمريكية بشكل نهائي؟ الإجابة مرهونة بمسار ما تبقى من عهده الرئاسي، فالنظام الأمريكي يملك آليات ضبط ذاتية تكبح جموح الإدارة، وقد شهدنا بالفعل كيف تراجع الرئيس عن أكثر مخططاته تطرفاً في ملف الرسوم الجمركية، وخفف من وتيرة هجومه على استقلالية البنك المركزي، خاصة مع صعود عوائد السندات الحكومية طويلة الأجل إلى مستويات مقلقة.
وستواجه إدارة ترامب ضغوطاً سياسية متصاعدة في المرحلة المقبلة، إذ قفزت توقعات التضخم والبطالة للعام القادم إلى مستويات مقلقة، فيما يبدو أن مؤشر ثقة المستهلكين الجمهوريين – الذي يعكس عادةً معدلات الرضا عن الرئيس – قد وصل إلى نقطة استقرار. وستبدأ تداعيات الرسوم الجمركية القائمة، خاصة تلك المفروضة على الصين، في الظهور قريباً.
وتشير توقعات الأسواق للأشهر الاثني عشر المقبلة إلى احتمال تراجع معدل الرسوم الجمركية الفعلي ليستقر بين 10 و20% – وهو مستوى يظل مؤلماً – مقارنة بمستواه الحالي الذي يتجاوز 20% بكثير. ومن المتوقع أن تتعثر الأنشطة التجارية بسبب استمرار حالة عدم اليقين، حيث يرى المحللون في وول ستريت أن احتمالات الركود تقترب من 50%.
ويواجه الحزب الجمهوري تحدياً كبيراً مع أغلبيته الضئيلة في مجلسي النواب والشيوخ. ويرى مات جيرتكين، كبير الاستراتيجيين في مؤسسة بي سي إيه ريسيرش، أن «الانتخابات النصفية غالباً ما تحول الرئيس في فترته الثانية إلى بطة عرجاء، لكن مع توقع شعور الناخبين بوطأة ارتفاع الأسعار والبطالة بحلول ذلك الموعد، فإن هذا التصويت قد يكون مدمراً بشكل خاص للجمهوريين».
ولا يستبعد الخبراء حدوث ضرر كبير لمسار النمو الاقتصادي الأمريكي، خاصة إذا لجأ ترامب إلى الاعتماد بشكل أكبر على صلاحياته التنفيذية.
ويحدد خبراء المخاطر السياسية أربعة تهديدات رئيسية: تقويض استقلالية الاحتياطي الفيدرالي، انهيار سوق السندات، فرض ضوابط على رأس المال، ومحاولة شرعنة ولاية ثالثة – ما سيفاقم الضرر الناجم عن السياسات المطبقة.
ويمكن لكل من هذه التهديدات أن يضعف بشكل كبير الاقتصاد الأمريكي ويقلص قدرته على توظيف مدخلاته بشكل منتج على المدى الطويل.
ويرى معظم الخبراء كل هذه السيناريوهات – باستثناء التهديدات للبنك المركزي – ذات احتمالية منخفضة، بالنظر إلى العقبات المالية والسياسية والقانونية. وحتى لو استبدل ترامب رئيس البنك المركزي جيروم باول بشخصية أكثر مرونة، فإن سيدريك شهاب، كبير الاقتصاديين في مؤسسة «بي إم آي»، يعتبر أن أعضاء مجلس البنك المركزي الآخرين، وشرط الحصول على موافقة الكونغرس على أي رئيس جديد، سيحدان من خطر حدوث انحراف كبير في نهج السياسة النقدية.
وبشكل عام، لا تتوقع مؤسسة كابيتال إيكونوميكس حدوث تغييرات جوهرية في معدلات النمو المحتملة للولايات المتحدة أو منطقة اليورو عن التقديرات التاريخية لوكالة فيتش على المدى الطويل في مرحلة ما بعد ترامب.
ويفترض هذا التحليل أن تستقر الرسوم الجمركية عند 10% على بقية دول العالم و60% على الصين خلال فترة رئاسة ترامب، وأن يتم التراجع عن سياسات ترامب التجارية وسياساته المتعلقة بالهجرة بعد مغادرته السلطة. ويأخذ هذا التحليل في الاعتبار أن أمريكا ستستفيد من تقنيات الذكاء الاصطناعي أكثر من أوروبا، فضلاً عن الآثار الإيجابية المتوقعة لجهود إلغاء القيود التنظيمية، مثل تبسيط قواعد التخطيط العمراني في ظل إدارة ترامب.
لكن ما احتمالية تحقق هذا السيناريو؟ بالنظر إلى المسار الحالي للمعنويات الاقتصادية – وعدم قدرة التخفيضات الضريبية على تعويض الآثار السلبية للرسوم الجمركية على دخل المواطنين، فإن فوز مرشح من خارج تيار «ماغا» في الانتخابات الرئاسية عام 2028 يبدو مرجحاً، وإن لم يكن مضموناً.
وتشير بيانات الاستطلاعات لنصف القرن الماضي إلى أن السلطة تنتقل عادةً بين الحزبين عندما يشعر الناخبون بتدهور كبير في أوضاعهم الاقتصادية بنهاية فترة الرئيس مقارنة ببدايتها. وما لم يحدث تراجع ملحوظ في الرسوم الجمركية، فإن هذا السيناريو يبدو معقولاً في ظل إدارة ترامب.
وفي هذه الحالة، يمكن التراجع عن جزء كبير من أجندته السياسية، كما ستتبدد حالة عدم اليقين وتنتعش الاستثمارات التجارية، مع احتمال عودة تدفق رؤوس الأموال إلى أمريكا. ورغم أن إلغاء الرسوم الجمركية على الواردات قد يكون صعباً، إلا أن التكلفة الاقتصادية لجدار التعريفات المرتفع ستقوض على الأرجح المبررات السياسية للرسوم الجمركية بمرور الوقت.
لا يعني ذلك أن الاقتصاد الأمريكي سيستعيد معدل نموه الأصلي فور رحيل ترامب، إذ يظل الضرر الدائم للسمعة احتمالاً قائماً، خاصة إذا استمرت سياسات «ماغا»، كما أن بعض السياسات قد لا يتم التراجع عنها، لكن الضربة التي ستلحق بمعدل النمو الأساسي للولايات المتحدة لن تكون بالقوة المتوقعة.
وبالنسبة لقدرة أوروبا على اللحاق بالركب، يرى تشارلز سيفيل، المدير الأول في وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، أن «العوامل الهيكلية بطيئة التغير – مثل ضعف النمو السكاني – يصعب التغلب عليها، مما يضع العبء على الاستثمار ونمو الإنتاجية وسياسات سوق العمل النشطة».
وفي حين أن التحولات الأخيرة في السياسة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي حقيقية، إلا أنه لا ينبغي المبالغة في تقديرها، فالحوافز الألمانية للدفاع والبنية التحتية ستدعم النمو في أكبر اقتصاد أوروبي، لكن المطلوب هو إنفاق رأسمالي على مستوى المنطقة بأكملها. كما أن دفعة إعادة التسلح الأوروبية الأوسع قد تعزز الطلب بدلاً من رفع اتجاه نمو الإنتاجية، خاصة إذا تم تخصيص إنفاق أقل للتكنولوجيا المتطورة.
وحذر لورينزو كودونيو، كبير الاقتصاديين السابق في وزارة المالية الإيطالية، من أن تنفيذ خطة ماريو دراغي لزيادة الإنتاجية الأوروبية – من تسريع جهود توحيد الأسواق المالية إلى تنسيق القوانين واللوائح – سيواجه عقبات كبيرة. وقال: «التفاوض بين 27 دولة عضواً في الاتحاد الأوروبي يظل معركة صعبة». كما تتأثر آفاق النمو الأوروبي على المدى القريب سلباً بأجندة ترامب، حيث تصدر الولايات المتحدة حالة من عدم اليقين والاضطرابات التجارية، مما يهدد باستهلاك الجهود السياسية المطلوبة لتنفيذ الإصلاحات الضرورية.
وتشير كل هذه المؤشرات إلى أن القارة الأوروبية لن تتمكن من تحقيق تقدم ملموس في تقليص الفجوة مع التفوق الأمريكي في النمو. وعند الأخذ في الاعتبار الريادة الاقتصادية الحالية لأمريكا، وقدرة ترامب على إضعافها، وجهود الإصلاح الأوروبية، يصبح من الصعب تصور تعرض ميزة النمو الأمريكية لتهديد جدي من أوروبا في المدى المتوسط.
قد يبدو هذا التحليل مخالفاً للانطباع السائد في ظل التغطية الإخبارية الحالية، إلا أن الانحياز للأحداث الراهنة يعد ظاهرة شائعة عند متابعة الأسواق. وتتضمن المخاطر الواضحة التي تواجه هذه التوقعات عدم إمكانية التنبؤ بسلوك ترامب ونتائج انتخابات 2028.