هل عادت الصين مجدداً وجهة استثمارية جاذبة؟
(البيان)-26/02/2025
مع الصعود القوي لأسهم الصين منذ بداية العام الجاري، يطرح المستثمرون العالميون تساؤلاً محورياً: هل عادت الصين وجهةً استثماريةً جاذبةً بعد كل ما حدث؟ الإجابة هي نعم، والحقيقة أنها كانت كذلك دائماً.
فرغم التراجع الحاد الذي شهدته الأسواق الصينية في العقد الحالي لأسباب متنوعة، إلا أنه كان من الخطأ استبعاد ثاني أكبر اقتصاد في العالم من الخيارات الاستثمارية.
وحتى الآن، لم تطرأ تغييرات جوهرية على الأسس الاقتصادية، ولا تلوح في الأفق نهضة اقتصادية كبرى، فما زال الاقتصاد يُعاني من تحديين رئيسين: شيخوخة القوى العاملة والديون المُرهقة، وهو ما قد يخفض معدل النمو إلى أقل من 3%، الذي يعد أقل بكثير من المستهدف الذي حددته بكين.
إن التغير الجوهري الذي نشهده يكمن في تحول مشاعر الأسواق تجاه الصين، وهو التحول الذي تسارعت وتيرته في أعقاب الإعلان الأخير عن إطلاق شركة «ديب سيك» لبديل صيني منخفض التكلفة لتقنيات الذكاء الاصطناعي الأمريكية.
وقد دفع هذا التطور المستثمرين، وخاصة الأجانب، إلى إعادة تقييم السوق الصيني، الذي رغم تعقيداته وتحدياته، يظل ضخماً واستراتيجياً على نحو لا يمكن تجاهله، مع قدرة استثنائية على الابتكار وخلق فرص واعدة في قطاعات محددة.
وكانت الأسواق الصينية عاودت الانتعاش العام الماضي مع إعلان الحكومة حزمة إجراءات تحفيزية طموحة، ولكن معظم المستثمرين الأجانب فضلوا التريث، متأثرين بتباطؤ النمو والإجراءات التنظيمية المشددة في بكين.
ثم جاء انتخاب دونالد ترامب ليعزز المخاوف من أن المخاطر الاستثمارية في الصين تفوق العوائد المحتملة.
ومن المفارقة أن ترامب يتبنى موقفاً أكثر ليونة تجاه الصين مما كان متوقعاً، فيما تدفع ضغوطه الجمركية الرئيس شي جين بينغ لتحسين بيئة الاستثمار وإحياء روح المبادرة الاقتصادية، مرسلاً إشارات إيجابية للقطاع الخاص.
وفي الأسبوع الماضي، عقد اجتماعاً مع كبار رجال الأعمال، مؤكداً أن السعي نحو الثراء مرحب به بقوة في الصين.
بموازاة ذلك، فإن المخاطر الجيوسياسية آخذة في التراجع هي الأخرى إذ كان القلق الأكبر يتمثل في تكرار «سيناريو روسيا»؛ حيث تعزل بكين نفسها عن الأسواق عبر تصعيد ملف تايوان، كما فعلت موسكو في أوكرانيا.
ولكن نظراً لأهمية الصين التجارية عالمياً مقارنة بروسيا، كان هذا التهديد مبالغاً فيه.
والآن، يتزايد الاعتقاد بأن إدارة ترامب لن تفرض عقوبات دولية صارمة على بكين حال تحركها في مضيق تايوان.
ويدرك المستثمرون بشكل متزايد أن الأصول الصينية تُتداول بأسعار منخفضة بشكل غير معقول.
ورغم المكاسب القوية للأسهم العام الماضي، دخلت الصين عام 2025 كواحدة من أرخص الأسواق الرئيسة عالمياً، حيث يجري تداول الأسهم عند نصف متوسط مضاعفات الربحية والقيمة الدفترية مقارنة بالأسواق الأمريكية.
ويخلق هذا الوضع فرصاً استثمارية غير مستغلة، حيث تضم السوق الصينية أكثر من 250 شركة تزيد القيمة السوقية لكل منها على مليار دولار وتحقق عائد تدفق نقدي حر يفوق 10%، مقارنة بأقل من 150 شركة في الولايات المتحدة.
ومن بين هذه الشركات، هناك أقل من 20 شركة تنتمي إلى قطاع التكنولوجيا، في حين تتركز الغالبية في قطاعات التصنيع والاستهلاك، ما يعني أن الفرص الاستثمارية في الصين ليست مقتصرة على الإنترنت والذكاء الاصطناعي.
وكانت أطروحة «الصين غير القابلة للاستثمار» جزئياً إلى بيانات تعود للتسعينيات، وكانت تظهر عوائد سنوية متواضعة.
ولكن هذه النظرة تتجاهل فترات النمو المزدهر، مثل الفترة من منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وأواخر العقد الماضي. كما أن المؤشرات المالية لم تبرز بالكامل نجاحات الشركات التكنولوجية والاستهلاكية، حيث لم تُدرج في المؤشرات الرئيسة لسنوات، ما أدى إلى إغفال جزء كبير من مكاسبها.
وانتهت طفرة التكنولوجيا تلك بشكل مفاجئ بعد قرار بكين إعادة فرض سيطرة الحزب الشيوعي على شركات التكنولوجيا العملاقة، بدءاً من مجموعة علي بابا في عام 2020. ولتفادي هذا الضغط المتزايد على القطاع الخاص، اتجه بعض المستثمرين إلى توجيه استثماراتهم نحو المجموعات المملوكة للدولة، والتي لا تزال تمثل 70% من أكبر الشركات الصينية من حيث الإيرادات.
واستناداً إلى بعض المعايير، يمكن اعتبار النموذج الرأسمالي الصيني أكثر تنافسية من نظيره الأمريكي.
فالشركات ذات القيمة السوقية الكبيرة تشغل حيزاً أصغر نسبياً من إجمالي الشركات المدرجة في الصين، ما يفسح المجال أكثر للشركات الناشئة والوافدين الجدد.
ومن بين 11 قطاعاً اقتصادياً رئيساً، هناك 7 قطاعات تتسم بتركيز أقل في الصين مقارنة بالولايات المتحدة، بمعنى أن أكبر 5 شركات تستحوذ على حصة أقل من إجمالي القيمة السوقية لكل قطاع. ويظهر هذا بوضوح في قطاع التكنولوجيا الصيني الذي يتسم بدرجة تركيز أقل بكثير، وهو ما أفسح المجال لشركة ناشئة مثل «ديب سيك» أن تنمو وتزدهر في مشهد أقل هيمنة من جانب الشركات العملاقة.
وبطبيعة الحال، تظل عوامل المخاطرة في الاقتصاد الصيني قائمة، وعلى رأسها احتمالية التدخل الحكومي في القطاعات المختلفة، ولكن الأسهم الصينية ستظل – ومن المنطقي أن تظل – تُباع بحسم على التقييم مقارنة بنظيراتها في الأسواق المتقدمة. ولكن المشكلة كانت أن هذا الحسم قد وصل إلى مستويات كبيرة على نحو غير مبرر على الإطلاق.
ومع بدء المستثمرين العالميين إعادة تقييم علاوة المخاطر المطبقة على الأصول الصينية وتراجع دور الدولة في التدخل بالاقتصاد، فإن موجة الانتعاش هذه قد تستمر. وربما يظهر المزيد من الفرص الاستثمارية المربحة في هذا السوق. وهكذا، فإن الصين لا تزال بيئة استثمارية قابلة للاستثمار بشكل كبير، مع ضرورة مراعاة شرطين أساسيين، أولاً: الدخول بأسعار مناسبة تبرز المخاطر الحقيقية (وليس المبالغ فيها)، وثانياً: الاستثمار بعقلية واعية تماماً للتحديات الاقتصادية الهيكلية التي تواجه الصين.