هل هناك مبالغة في استقلالية «الاحتياطي الفيدرالي» الأمريكي؟
(البيان)-06/11/2025
بعد قرابة عام من هجمات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المتواصلة، يواجه «الاحتياطي الفيدرالي» ضغوطاً متزايدة. وتكفي الإشارة هنا إلى الشتائم والتهديدات بإقالة رئيس الاحتياطي الفيدرالي جاي باول، والمحاولات المستمرة لإقالة حاكمة الاحتياطي الفيدرالي ليزا كوك.
والمطالبات الصريحة بخفض أسعار الفائدة لتخفيف تكلفة الدين الحكومي. ثم يأتي أيضاً الاتهام الموجه إلى الاحتياطي الفيدرالي من قبل وزير الخزانة سكوت بيسنت بتجاوز صلاحياته منذ الأزمة المالية.
في ظل هذه الخلفية، لم يكن بإمكان معهد بيترسون للاقتصاد الدولي اختيار وقت أفضل لعقد مؤتمر متميز حول استقلالية البنوك المركزية، والذي اتسم، على نحوٍ مثير للإعجاب، بالخلو من الحجج المُبالغ فيها والدفاعات غير الواقعية عن كل ما فعله الاحتياطي الفيدرالي.
لقد اتفق الجميع بداية على أن «الاستقلالية» لا ينبغي أن تكون هدفاً في حد ذاتها، وأن الحق في تحرير السياسة النقدية من التدخل السياسي لا ينبغي تمريره إلا بالنتائج. وكان ذلك بمثابة طمأنينة بالغة لمحافظي البنوك المركزية، فيما اختلف الاقتصاديون في ما بينهم.
فبعد السماح للبنوك الأمريكية بأن تصبح أكبر من أن تُفلس، وانخراطها في سياسات المناخ، والإشراف على تضخم بنسبة 10 %، برز دعم بين الاقتصاديين لرأي بيسنت القائل بأن خيارات الاحتياطي الفيدرالي السيئة في الماضي قادت إلى استقلالية مفرطة.
وأنه ينبغي كبح جماحها. وعلى سبيل المثال، رأى جون كوكرين من مؤسسة هوفر أن الاحتياطي الفيدرالي يحتاج إلى تفويض أضيق للعمل بشكل مستقل عن الحكومة، كما يجب أن تكون المساءلة أقوى بكثير.
وقد أثار رأيه رد فعل استفزازيًا من لاري سامرز، الأستاذ بجامعة هارفارد ووزير الخزانة السابق. وصاح سامرز بأن الشكوى بشأن تجاوز الاحتياطي الفيدرالي لتفويضه «ليست من بين أهم 100 مشكلة تواجهها البلاد»، مشدداً على أن تهديدات إدارة ترامب للبنك المركزي قد تُسبب الكثير من الضرر.
وقال سامرز: «إذا طُرِحَت فكرة مفادها أن على الاحتياطي الفيدرالي أن يخضع نفسه لأفكارٍ غير تقليدية حول السياسة النقدية، مدفوعةً من السلطة التنفيذية الأمريكية بشكلٍ مستمر، فسيكون ذلك، على الأرجح، مُضاداً لمصالح الجمهورية، ومصدر قلقٍ بالغ الأهمية».
من ناحية أخرى، فإنه على الرغم من انزعاج الاقتصاديين من التهديدات التي الموجهة إلى الاحتياطي الفيدرالي، فقد ظلت الأسواق المالية هادئة طوال عام 2025.
وقدّم فرانشيسكو بيانكي من جامعة جونز هوبكنز تحديثاتٍ تظهر أن تعليقات ترامب الحادة حول الاحتياطي الفيدرالي على وسائل التواصل الاجتماعي خلال ولايته الأولى أدت إلى انخفاضٍ ذي دلالة إحصائية في توقعات الأسواق المالية لسعر فائدة الأموال الفيدرالية.
ووجد بيانكي أن الوضع خلال 2025 أظهر أن الأسواق رأت أن تهديدات ترامب تُجدي نفعاً، حيث إن الاحتياطي الفيدرالي كان يرد بخفض أسعار الفائدة.
مع ذلك، فإنه على المدى الأطول، تفقد كلمات الرئيس تأثيرها الكبير، فيما لم تظهر أي دلائل على أن حراس السندات يقيدون إجراءات الرئيس بتوقعات بارتفاع التضخم.
وأشار راندي كروزنر، محافظ بنك الاحتياطي الفيدرالي السابق وعضو لجنة السياسة المالية في بنك إنجلترا، إلى أنه لم يكن هناك قلق كبير في الأسواق المالية من أن تؤدي تصرفات ترامب إلى ارتفاع معدلات التضخم في المدى المتوسط.
وربما كانت هذه اللامبالاة راجعة إلى أن استقلالية الاحتياطي الفيدرالي لم تكن بهذه الأهمية، أو ربما لأن التهديدات لم تكن بهذا السوء، أو ربما لأن المرشحين لرئاسة الاحتياطي الفيدرالي نظر إليهم على أنهم جديرون بالثقة، أو ربما لأن المحكمة العليا تعامل الاحتياطي الفيدرالي بشكل مختلف عن الهيئات العامة الأخرى، أو ربما لأن الدولار الأمريكي هو عملة الاحتياطي الفيدرالي الرئيسية في العالم..
الكثير من الاحتمالات والأسباب المعقولة. لكن لم يستطع أحد إثبات نظرية مفضلة لأن جميع التفسيرات كانت متسقة مع الحقائق. لكن النتيجة الواضحة هي أن حراس السندات لن يتدخلوا لإنقاذ الاحتياطي الفيدرالي من التهديدات التي تواجه استقلاليته.
كذلك، كانت إحدى النظريات الرئيسية وراء تفاؤل الأسواق هي أن المحكمة العليا الأمريكية أوضحت أنها ستعامل الاحتياطي الفيدرالي بشكل مختلف عن الوكالات الحكومية الأمريكية الأخرى.
وفي مايو، عندما قضت المحكمة العليا الأمريكية بعدم قدرة مسؤولة على العودة إلى وظيفتها أثناء نظر قضيتها ضد فصلها دون سبب، قالت الأغلبية في المحكمة إن الاحتياطي الفيدرالي يعد كياناً مختلفاً عن الوكالات الأخرى. وجاء في الحكم: «الاحتياطي الفيدرالي كيان شبه خاص ذو هيكل فريد، يتبع التقليد التاريخي المتميز للبنوك الأولى والثانية في الولايات المتحدة».
ويبدو أن هذا الحكم قد طمأن الكثيرين في الأسواق والاقتصاد، لكن المحامين أبدوا قلقاً بشأن غياب المبدأ أو المنطق وراء موقف المحكمة العليا. صرح ستيفن فلاديك، من كلية الحقوق بجامعة جورج تاون، بأنه «في اندفاعها لتبني نظرية السلطة التنفيذية الموحدة.
وقد يعني ضعف حجج المحكمة العليا أن الاحتياطي الفيدرالي ليس في مأمن كما اعتقد في مايو.
ومثلما لم يكن المحامون متفائلين بقدر الأسواق المالية، فكذلك لم يكن الأكاديميون الذين يدرسون المواقف العامة تجاه الاحتياطي الفيدرالي.
رغبت المحكمة العليا في إيجاد طريقة ما لفصل الاحتياطي الفيدرالي، حتى لو كانت هذه الطريقة غير مقنعة تحليلياً على الإطلاق وبشكل لا يمكن إصلاحه».
وهم يتذكرون أن ميلتون فريدمان تساءل في مقالة له عام 1962 بعنوان «هل يجب أن تكون هناك سلطة نقدية مستقلة؟»، عما إذا كان «من المقبول حقاً في نظام ديمقراطي أن تتركز مثل هذه السلطة الكبيرة في يد هيئة بلا أي نوع من الرقابة السياسية المباشرة والفعالة».
وكان جواب ميلتون فريدمان، وفقاً لكارولا بايندر من جامعة تكساس في أوستن، أن شرعية استقلال الاحتياطي الفيدرالي في نظر الجمهور هي ما يجعله مقبولاً.
لكنها أضافت أن هناك مؤشرات تحذيرية كثيرة على أن شرعية الاحتياطي الفيدرالي تستند إلى أرض هشة، لا سيما مع تزايد التحزب في المواقف. وكما تؤكد البيانات، فقد قوضت هجمات ترامب على الاحتياطي الفيدرالي شرعيته بين الجمهوريين هذا العام، حيث أبدت أغلبية معارضتها لإجراءاته.
ومؤخراً، أظهر بحث مهم أن تكاليف الاقتراض الحكومي الأمريكي لعشر سنوات كانت تنخفض فقط في الأيام التي تسبق اجتماعات الاحتياطي الفيدرالي حتى عام 2022.
ثم، تم إرجاع انهيار هذه العلاقة منذ ذلك الحين إلى تراجع نفوذ الاحتياطي الفيدرالي. وعندما يجتمع الاحتياطي الفيدرالي، تنخفض تكاليف الاقتراض، لكنها ارتفعت بشكلٍ حاد في أوقاتٍ أخرى منذ عام 2022.
ويرى البعض أن هذه التحركات قد تكون علامة على تحسّن تواصل الاحتياطي الفيدرالي، وأن الأسواق أضحت أكثر دراية برد فعل الاحتياطي الفيدرالي قبل الاجتماعات بوقتٍ أطول، لذا لم تعد التواريخ ذات أهمية كبيرة.
وهذا تفسير معقول، مع أنّنا لا نستطيع التمييز بين تراجع النفوذ ووضوح التواصل من خلال تغيّر الأسعار وحده. كما أنه مثال آخر لخطورة الاستدلال من تغيّر الأسعار.
