وداعاً لعصر حرية التدفقات.. «القمع المالي» يعود بقوة
(البيان)-01/07/2025
تشكل الحرب التجارية التي أطلقها دونالد ترامب بدايةً لاضطرابات أعمق في النظام الاقتصادي العالمي. فبغض النظر عن الشكل النهائي للرسوم الجمركية، ستظل العجوزات والفوائض والأنماط التجارية رهينة للتدفقات المالية وتقلباتها. وليس الأمر سوى مسألة وقت قبل اندلاع حرب جديدة في السياسات الاقتصادية – والحقيقة أن شرارتها قد انطلقت بالفعل، فأهلاً بكم في العصر الجديد للقمع المالي.
ويُعرَّف «القمع المالي» بأنه مجموعة من السياسات المصممة لتوجيه رؤوس الأموال نحو تمويل أولويات الحكومات، بدلاً من تركها تتدفق في مساراتها الطبيعية. وخلال العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، لجأت الدول الغربية إلى إجراءات تنظيمية ونظم ضريبية وفرض قيود مختلفة للحد من حركة رؤوس الأموال عبر الحدود وتوجيه التدفقات نحو استخدامات مفضلة، مثل تمويل السندات الحكومية أو دعم قطاع البناء السكني.
لاحقاً، قادت الولايات المتحدة مرحلة امتدت لعقود من تحرير القيود المالية والعولمة التي سبقت (وأدت إلى) الأزمة المالية العالمية، غير أنه من الواضح الآن رفضها للدور التقليدي الذي كانت تلعبه في تفكيك الحواجز المالية بين الدول وترسيخ دعائم النظام المالي العالمي.
وثارت شائعات حول ما يسمى «اتفاق مارا لاغو» – الذي يهدف إلى خفض قيمة الدولار مع إجبار المستثمرين العالميين على قبول خصومات وتثبيت إقراضهم لواشنطن – حالة من الصدمة وعدم التصديق من قبل الدول الأخرى، بيد أن الأمر يتجاوز مجرد مارا لاغو، إذ ظهرت مؤخراً عدة مقترحات سياسية يمكن تصنيفها بإنصاف ضمن إطار القومية المالية.
وتتضمن هذه المقترحات فرض ضريبة على التحويلات المالية، ورسوم على حصص الاستثمار الأجنبي من الدول ذات السياسات غير المقبولة من منظور واشنطن، إضافة إلى تعزيز العملات المستقرة المقوّمة بالدولار وتخفيف قيود الرافعة المالية للبنوك، مما سيؤدي إلى تحفيز تدفق الأموال نحو سندات الدين الحكومية الأمريكية.
وفي حين تمثل الولايات المتحدة التحول الأكبر في بندول السياسات المالية، فالصين احتفظت بعملة غير قابلة للتحويل وتتحكم في سعر صرفها، كما تستخدم شبكة من البنوك والشركات والحكومات المحلية الخاضعة لسيطرة الدولة أو نفوذها لتوجيه تدفقات الائتمان نحو القطاعات التي تحددها مختلف مسارات التنمية الاقتصادية المفضلة لدى بكين على مر السنين، وقد حققت هذه السياسات نجاحات ملموسة (مثلما يحدث في صناعة السيارات الكهربائية) وكذا إخفاقات واضحة (كفقاعة البناء السكني). علاوة على ذلك، تعمل الصين حالياً على تطوير بديل لنظام المدفوعات الدولي القائم على الدولار.
من جانبهم، مال الأوروبيون طويلاً لمبدأ حرية انتقال رؤوس الأموال بشكل صارم ـ في البداية داخل السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي، ثم امتد هذا التوجه ليشمل بقية دول العالم، غير أن المواقف تشهد تحولاً ملموساً في الوقت الراهن.
وقد سلطت التقارير المهمة التي أعدها رئيسا الوزراء الإيطاليان السابقان إنريكو ليتا وماريو دراغي الضوء على حقيقة مقلقة: الاتحاد الأوروبي يرسل مئات المليارات من اليورو إلى خارج حدوده سنوياً، في حين يعاني من فجوات تمويلية هائلة في الداخل، مما يدفع صناع السياسات نحو تبني إجراءات لإعادة توجيه التدفقات المالية، ويعزز هذا التوجه أيضاً الأجندة الطموحة لتوحيد الأسواق المالية.
ومن جهة أخرى، تلقى هدف تحويل اليورو إلى عملة احتياطية واستثمارية أكثر جاذبية دفعة قوية بفعل استخفاف ترامب الواضح بدور الدولار العالمي، حيث بات برنامج اقتراض ضخم على مستوى الاتحاد الأوروبي احتمالاً وارداً للمرة الأولى، فضلاً عن اقتراب إطلاق عملة اليورو الرقمية الرسمية. وبالتوازي مع هذه الخطوات، تسعى المملكة المتحدة جاهدة لإقناع صناديق التقاعد بتوجيه المزيد من المدخرات نحو الشركات البريطانية.
وقد لا تنتهي الأمور في أوروبا بتبني سياسات القمع المالي بصورته الكاملة، لكن الباب بات مفتوحاً على مصراعيه أمام سياسات توجيه التدفقات المالية نحو المجالات التي تراها الحكومات – وليس الأسواق وحدها – الأكثر احتياجاً. وفي واقع الأمر، لم تعد هناك خيارات أخرى أمام صناع القرار في ظل الالتزامات الهائلة بالتحولات المناخية والرقمية وتطوير البنية التحتية المرتبطة بالقطاع الدفاعي. لكن كيف يمكن لنا أن نفسر هذه العودة إلى تفعيل دور الدولة في المجال المالي؟
ينبغي أولاً ملاحظة أن هذا التحول يأتي في ظل انحسار العولمة المالية بالفعل، فقد توقف النمو المتسارع في المطالبات المالية العابرة للحدود التي تقودها البنوك منذ أزمة 2008، حيث تقلصت من نحو 50 بالمئة من حجم الاقتصاد العالمي مطلع 2008 إلى 30 بالمئة حالياً، وربما عوضت أنشطة المؤسسات غير المصرفية هذا التراجع جزئياً، لكن هذا الانكماش حدث في كل الأحوال دون الحاجة إلى سياسات متعمدة تستهدف إبقاء الأموال داخل الحدود الوطنية.
ثانياً، قد تتغير نبرة الشكاوى المتعلقة بفوائض الدول الأخرى بشكل دراماتيكي إذا وجدنا أنفسنا في خضم تسابق محموم للاستحواذ على رأس المال المتاح عالمياً، مما سيجعل الحروب التجارية الحالية تبدو وكأنها مجرد «لعب أطفال» بالمقارنة.
ثالثاً، ثمة مخاطر كثيرة يمكن أن تتحقق، فالنظام المالي المتحرر لم يحقق إنجازات مبهرة بالتأكيد، لكن التمويل الموجه من قبل الدولة يمثل نشاطاً عالي المخاطر، ويكون عرضة للمحسوبية وسوء تخصيص الموارد في غياب الضمانات الكافية. ومع ذلك، قد يكون هذا التدخل ضرورياً، فإذا كان الجميع سيسعى لإبقاء المزيد من رؤوس الأموال داخل حدودهم، فإن توجيهها نحو أفضل الاستخدامات الممكنة يصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى.