صمود لافت للنظام المصرفي
(العربية)-24/01/2024
*محمد كركوتي
“فشل المصرف سببه المودعون الذين لا يضعون ما يكفي من المال؛ لتغطية سوء إدارة المصرف“
دان كويل، نائب الرئيس الأميركي الراحل جورج بوش الأب
يمكن النظر بإيجابية إلى وضع النظام المصرفي العالمي الراهن، على الرغم من الظروف التي مر ويمر بها. هذه النظرة آتية بالطبع من نجاح هذا النظام في تفادي مشكلة كبيرة في منتصف العام الماضي، حين تعرضت سلسلة من البنوك لمصاعب جمة على الساحتين الأميركية والسويسرية، أدت في النهاية إلى عمليات استحواذ، وضمانات حكومية بعدم المساس بأموال المودعين. وفي تحول لافت بالفعل، أقدمت الإدارة الأميركية على التخلي عن المستثمرين في البنوك المتعثرة، مع التمسك بحماية المودعين العاديين، ولاسيما أولئك الذين يستخدمون هذه المصارف في معاملاتهم اليومية المعيشية. أزمة العام الماضي، أعطت بلا شك مؤشرات مهمة على صعيد التعاطي مع الأزمات المستقبلية في القطاع المصرفي ككل. صحيح أن البنوك التي تعثرت كانت صغيرة، لكن الصحيح أيضا أنها كانت منكشفة على غيرها أكبر منها.
نجح المشرعون في منع ما يعرف في هذا المجال بـ “تأثير الدومينو”، أي أن ينكشف مصرف تلو الآخر، لتتكون في النهاية أزمة أكبر، كتلك التي حدثت عام 2008، وأدت إلى واحدة من أكبر الأزمات الاقتصادية (وليس المالية فقط) التي أصابت العالم في قرن من الزمن. لكن السؤال: هل يستطيع هؤلاء المشرعون النجاح في علاج أزمة قد تكون أكبر قليلا من تلك التي حدثت الصيف الماضي؟ لا شيء مضمونا في هذا المجال، إلا إذا كانت هناك لوائح متجددة، توفر الضمانات اللازمة ليس لوقوع تعثر هنا أو آخر هناك، بل لضبط أكبر للعمليات المصرفية ككل، فلا يزال يتذكر أن أزمة عام 2008 لم تحدث لولا الإفراط الهائل في عمليات الإقراض غير المسنودة بأي من الأصول. بمعنى آخر، توفير المال الرخيص دون ضمانات كافية أو حتى بلا ضمانات أصلا.
من هنا، كانت الأصوات تتصاعد من أجل مزيد من الشفافية في التعاطي مع سلوكيات القيادات المصرفية (إن جازت التسمية)، ولا سيما أولئك الذين يخاطرون أكثر من اللازم في عرض المال بأي ثمن. لا شك أنه في الأشهر القليلة الماضية أقدمت السلطات الأميركية والسويسرية إلى مزيد من التشديد على صعيد الأداء المصرفي ككل، وخصوصا المصارف الكبرى التي يمكن ببساطة أن تتسبب في أزمة عبر “تأثير الدومينو” بسرعة قياسية. وهذا ما يمكن اعتباره اليوم، أنه أسهم إلى حد بعيد في صمود النظام المصرفي العالمي، على الرغم من الأزمات الأخرى؛ كالصراعات الجيوسياسية وتأثيراتها السلبية، ووصول مستويات الفائدة إلى معدلات تاريخية من حيث الارتفاع، وعدم وضوح الرؤية حتى الآن في مسار الاقتصاد العالمي ككل، ولا سيما في ظل التوترات على اختلاف مسبباتها.
ومهما كانت طبيعة الأوضاع العامة محليا وخارجيا، لا غنى عن عملية يمكن وصفها بـ “توالد التدابير” الكفيلة باستعداد المصارف هنا وهناك على مواجهة المصاعب التي قد تظهر في المستقبل. فالإجراءات الوقائية تبقى الأهم في ساحة لا يمكن حقيقة السيطرة عليها تماماً. فحتى الإجراءات المشددة التي اتخذت حول العالم بحق المصارف في أعقاب أزمة 2008، تراجع مفعولها بعد أقل من عشر سنوات من تلك الأزمة، فالتجديد الإجرائي يبقى العامل الأهم هنا، وعدم التساهل مع القرارات المالية “الانتحارية”، يعني ضمان عدم وقوع أزمة، وإن وقعت فستكون أقل حدة بالتأكيد. باختصار، لا بد من تحسين الرقابة، وتطوير أسرع للتكنولوجيا المالية، من أجل استقرار النظام ككل. وهذا ما يحدث فعلا، وإن بدرجات متفاوتة بين هذا البلد أو ذاك.
كل هذا عزز من صمود النظام المصرفي، إلا أن المشكلات المحتملة لا تزال قائمة، وستبقى حاضرة في الأجواء، إلى أن تستكمل عملية بناء “الجدار الرقابي” المتكامل والمتين. البنوك المعرضة للمخاطر في الولايات المتحدة (مثلاً) لا تزيد على 9% من الأصول المصرفية في البر الأميركي، لكن هناك مصارف منكشفة على ميادين تتعرض حاليا لمخاطر جمة، وخصوصاً تلك الخاصة بالعقارات والمباني والتشييد. وهذه المشكلة ليست جديدة، إلا أن حدتها تتصاعد، كما نشهد حاليا من تعثر في هذا القطاع بقوة على الساحة الصينية، وإن كانت المؤثرات السلبية عليه في الولايات المتحدة وأوروبا ليست بحجم تلك الماثلة في الصين. وأيضا، نتذكر بالطبع، كيف أن أزمة 2008، انفجرت أصلا من جهة الرهن العقاري.
وإذا كان بالإمكان توفير قدر من الحماية للمصارف عبر التدابير الرقابية الأخيرة التي باتت متجددة بالفعل، وخصوصا تلك المتعلقة بأموال المودعين، وليس المستثمرين، فإن الأمر ليس سهلا على صعيد قطاع العقارات، خصوصا مع وصول الفائدة في أغلبية البلدان المؤثرة إلى مستويات عالية نادرة. وفي كل الأحوال، لا يمكن إغفال حقيقة صمود النظام المصرفي العالمي في الوقت الراهن، لكن يبقى السؤال: هل بإمكانه فعلا الصمود أمام مشكلات كبيرة مستقبلية وسط أمواج متلاطمة تضرب الاقتصاد العالمي ككل، وترفع من حدة التوترات المتصلة مباشرة في الأداء المالي والأمان المصرفي؟ يمكن بالفعل التغلب على أي أزمة بسرعة تمكين أدوات الضبط المالي.