التّكامل الخليجي – اللبناني: من التّحويلات إلى الشّراكات الهيكليّة
(النهار)-09/07/2025
جابر الشعيبي*
تُشكّل التحويلات المالية من دول الخليج إلى لبنان ركيزة تقليدية للاقتصاد اللبناني منذ عقود، حيث ساهمت في سد فجوات التمويل ودعم الاستقرار النقدي. إلا أن هذا النموذج لم يعد قابلاً للاستدامة، ووفقاً لبيانات البنك الدولي، شكّلت تحويلات المغتربين اللبنانيين نحو 25% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024، مع تقديرات غير رسمية تشير إلى انخفاض المبلغ الإجمالي إلى نحو 5.8 مليارات دولار، مقارنة بأعوام سابقة. ويعكس هذا التراجع هشاشة الاعتماد على هذا المصدر، ويؤكد ضرورة التحول نحو نموذج اقتصادي أكثر مرونة واستدامة، يقوم على الشراكات الاستثمارية، خاصة في ظل التحولات العميقة في أولويات دول الخليج التي تتجه نحو تنويع اقتصادي ومعرفي.
ففي السنوات الأخيرة، تحوّلت دول الخليج من الاعتماد على الثروة النفطية إلى الاستثمار في الاقتصاد المعرفي، مدفوعة برؤى اقتصادية طموحة مثل رؤية السعودية 2030، والخطة الاستراتيجية لحكومة الإمارات 2031، وسياسات قطر التحفيزية للتكنولوجيا والتعليم. فتح هذا التحول الباب أمام فرص تعاون جديدة مع دول تمتلك رأسمالاً بشرياً مرناً وخبرات مهنية متقدمة، ولبنان يأتي في طليعتها.
يمتلك لبنان رصيداً بشرياً متقدماً، لا سيما في مجالات الإعلام الرقمي، التعليم، الرعاية الصحية، والبرمجيات. الكفاءات اللبنانية التي ساهمت لعقود في بناء المؤسسات الخليجية لا تزال قادرة اليوم على لعب دور استراتيجي في دعم أجندة التحول الخليجي نحو الاقتصاد القائم على المعرفة. ويمكن لهذه الخبرات أن تسهم في تصميم الخدمات الحكومية الرقمية، وتطوير التعليم الإلكتروني، وتعزيز الابتكار في ريادة الأعمال، خصوصاً أن لبنان يضم مواهب فريدة تواصل الإبداع داخل البلاد وخارجها.
وتحافظ المؤسسات اللبنانية على سمعة أكاديمية قوية، تسمح ببناء شراكات بحثية وعلمية مع جامعات ومراكز خليجية. ومن أبرز الأمثلة على هذا التعاون المرتقب، افتتاح فرع جديد للجامعة الأميركية في بيروت في دبي، بما يعكس مكانة التعليم اللبناني عربياً ودوره في دعم التكامل الأكاديمي. أما في القطاع الصحي، فقد أثبت اللبنانيون كفاءة عالية في التمريض، والطب، وإدارة المستشفيات. ويمكن بناء شراكات مؤسسية بين المستشفيات التعليمية والمراكز البحثية اللبنانية والخليجية، بما يعزز الابتكار في الخدمات الصحية جماعياً.
وأمام لبنان فرصٌ متاحة لدول الخليج في قطاعات واعدة مثل التكنولوجيا الرقمية، التعليم العالي، الطاقة المتجددة، والصناعات الإبداعية. كما أن تطوير البنية التحتية، خاصة في مجالات الاتصالات والنقل والخدمات اللوجستية، يمكن أن يعزز من اندماج لبنان في سلاسل القيمة الخليجية. وفي ظل تراجع مساهمة قطاع السياحة نتيجة حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني، تبرز الحاجة إلى توجيه الاهتمام نحو قطاعات غير متذبذبة، مثل الرقمنة، والتعليم، والزراعة، والطاقة النظيفة. في المقابل، يمكن للبنان أن يستثمر بيئات الأعمال الديناميكية في دول الخليج، لا سيما في مجالات الابتكار الرقمي، التعليم الخاص، والاستشارات التقنية ويمكن أن يتحول التعاون من مجرد استقدام كفاءات لبنانية إلى شراكات مؤسسية تنقل القيمة وتخلق فرص عمل للطرفين.
الانتقال من منطق التحويلات إلى منطق الاستثمار المتبادل يعد ضرورة إذا ما التزم لبنان في إصلاحات تشريعية واقتصادية، لاستعادة ثقة المستثمر الخليجي، كما حدث في تجارب ناجحة مثل مصر والأردن.
وفي هذا الإطار، تبرز الحاجة إلى إطلاق اتفاقية شراكة اقتصادية شاملة (CEPA) بين لبنان ودول مجلس التعاون، تمهد لتكامل فعّال في مجالات التجارة والخدمات والاستثمار. إلا أن نجاح هذا المسار يتطلب تنسيقاً مؤسسياً جاداً، ورؤية مستقبلية قادرة على تحويل العلاقة الخليجية – اللبنانية إلى نموذج متقدم للتكامل العربي القائم على المعرفة والمصالح المتبادلة والأخوّة المستدامة.
* كاتب وباحث إماراتي