دروس تحذيرية من مصائر اقتصادات كانت نموذجية
(البيان)-08/05/2024
تحقيق النمو أمر صعب لكن الحفاظ على استمراريته أكثر صعوبة
في وقت يجتذب اقتصادان كبيران، هما الولايات المتحدة، والهند، قدراً كبيراً من الضجة بفضل قوتهما البارزة، من المهم للغاية دراسة الدول التي لم يمض وقت طويل منذ أن كانت توصف بأنها ذات اقتصادات عالية الأداء، لكنها الآن آخذة في الانحدار. والغريب أنها تندرج ضمن أكبر 50 اقتصاداً في العالم، لكنها في اللحظة الراهنة تواجه انخفاضاً حاداً في نمو الدخل الحقيقي للفرد، وتراجعاً في حصتها من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
وتقدم هذه الدول «النموذجية سابقاً»، بقيادة كندا وتشيلي وألمانيا وجنوب أفريقيا وتايلاند، للجميع دروساً مهمة. فتحقيق النمو أمر صعب، لكن الحفاظ على استمراريته أكثر صعوبة، لذا فإن نجوم اليوم ليسوا بالضرورة نجوم الغد.
ولنبدأ مع كندا، فرغم الإعجاب واسع النطاق بكيفية تجاوزها للأزمة المالية العالمية عام 2008، فإنها تخلفت عن الركب عندما تحرك العالم نحو التقنيات الضخمة بدلاً من السلع الأساسية. وانخفض الناتج المحلي الإجمالي للفرد في كندا بمعدل 0.4% سنوياً منذ عام 2020، وهو أسوأ معدل لأي اقتصاد متقدم ضمن أكبر 50 اقتصاداً، وتقود الحكومة الآن بشكل أساسي الاستثمارات الجديدة ونمو الوظائف.
ويقتصر عمل القطاع الخاص غالباً على سوق العقارات، التي لا تجدي نفعاً لتعزيز الإنتاجية والازدهار، كما أن الشباب غير قادرين على الشراء في واحدة من أغلى أسواق الإسكان في العالم. وعندما يُسأل الكنديون عن النجاحات الرقمية، يشيرون إلى «شوبيفاي»، لكن المتجر الإلكتروني يعد الاسم التكنولوجي الوحيد ضمن أكبر 10 شركات في البلاد، وتتداول أسهمه بنصف مستوى ذروتها الذي بلغته عام 2021.
وهناك أيضاً تشيلي، التي حظيت بإشادة كبيرة في التسعينيات باعتبارها نموذجاً للقيادة الحاذقة على نمط شرق آسيا في أمريكا اللاتينية، لكن هذه الهالة اختفت منذ ذلك الحين. وتتصدر البلاد الآن عناوين الأخبار بسبب الصراعات السياسية المحيطة بدستورها. وقد أدى ضعف تحصيل الضرائب إلى استنفاد الخدمات العامة، ونتج عن ذلك احتجاجات عنيفة في الشوارع. وأدى تفاقم البيروقراطية إلى ابتعاد المستثمرين، حيث تضاعف الوقت اللازم للحصول على الموافقات على الاستثمارات الجديدة إلى ما يقرب من 20 شهراً. ولا تزال الصناعات التحويلية صغيرة مقارنة بنظيراتها في العالم الناشئ، بما في ذلك الأرجنتين المجاورة. ولا تزال منتجات التعدين مثل النحاس، تشكل أغلب صادراتها وثروة أصحاب المليارات، ما يجعل تشيلي تبدو أقرب لاقتصاد تقليدي قائم على السلع الأساسية من كونها نجماً على غرار شرق آسيا.
مع ذلك كله، لم يشهد أي اقتصاد متقدم منعطفاً دراماتيكياً نحو الأسوأ مثل ألمانيا، فقد انخفض معدل نمو نصيب الفرد من الدخل من 1.6% خلال العقد الماضي إلى ما دون الصفر في السنوات القليلة الماضية. وخلال الوباء، اتسمت ألمانيا بالقوة والمرونة، لكنها الآن تبدو منهكة؛ بسبب اعتمادها الكبير على الصادرات الصينية، وواردات الطاقة الروسية. وفشل الاستثمار في المساهمة في تحقيق النمو خلال السنوات الأخيرة، كما بدأت الإنتاجية الصناعية تتراجع بمعدل سنوي صادم بلغ 5%. وبين عشية وضحاها، يبدو مستقبل الشركات الصغيرة والمتوسطة – شبكة المصنعين التي ظلت محرك النمو في ألمانيا لفترة طويلة – غامضاً إلى حد كبير.
هناك أيضاً جنوب أفريقيا، التي انضمت إلى تجمع يمثل الأسواق الناشئة الكبيرة سريعة النمو التي تقودها البرازيل وروسيا والهند والصين في عام 2010، لتتحول التسمية من «بريك – Bric» إلى «بريكس – Brics». وباعتبارها صاحبة أكبر اقتصاد في أفريقيا، كانت جنوب أفريقيا الغنية بالموارد مدعومة بطفرة في السلع الأساسية التي انهارت فيما بعد، لتكشف عن العديد من نقاط الضعف في البلاد.
ورغم تولي حزب المؤتمر الوطني الأفريقي السلطة لمدة 30 عاماً، لكنه لا يزال يشرف على مجموعة متواصلة من الإخفاقات، فقد تجاوز معدل البطالة بين الشباب 50%، واعتماد جزء كبير من السكان على الرعاية الاجتماعية، وضعف الاستثمار، وانقطاع الكهرباء المستمر. ورغم أن الناخبين قد يزيحون حزب المؤتمر الوطني الأفريقي عن السلطة الشهر المقبل، تبدو العلة متجذرة بحيث لا يمكن حلها قريباً. ويتوقع صندوق النقد الدولي نمواً سلبياً لنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات الخمس المقبلة داخل اقتصاد واحد فقط من بين أكبر 50 اقتصاداً، في جنوب أفريقيا.
وأخيراً نجد تايلاند، فبعد أن كانت زعيماً لـ «النمور الآسيوية» قبل الوقوع في شرك الديون خلال أزمة 1998، باتت الآن الأضعف بين هذه المجموعة، والنمر السابق الوحيد الذي شهد انخفاضاً في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي خلال هذا العقد. وتعد تايلاند واحدة من الدول التي تعاني من أعلى معدلات عدم المساواة في العالم، حيث يعيش 79% من الفقراء في المناطق الريفية. وتوجه المعركة السياسية القائمة بين فقراء الريف ونخبة بانكوك النقاش العام نحو كيفية توزيع الكعكة الاقتصادية، وليس توسيعها. وعلى الرغم من المساعي الرامية إلى الاستفادة من موقعها على طرق التجارة العالمية لتصبح مركزاً للتصنيع، فإن نمو الإنتاجية يعاني من الركود، وتخسر أمام منافسيها في مجال التصنيع، مثل فيتنام.
والمغزى من ذلك كله لا يتعلق بأن الدول الذكية تصبح حمقاء بشكل أو بآخر. بل أن الفخاخ الخفية يمكنها أن تعرقل بقوة مسار التنمية، ويمكنها الانقضاض على الدول وعلى كافة مستويات الدخل من المستوى المتوسط إلى الغني. ومع ارتكاب خطأ جوهري واحد أو سهو ما، قد تجد أي دولة نفسها عاجزة ريثما تجد القيادة والرؤية اللازمتين لرسم مسار للخروج. وبالنسبة لنجوم الاقتصاد الحاليين، فالرسالة تشكل تحذيراً مفاده عدم التعامل مع مسألة النمو على أنها أمر مفروغ منه.