تطوير العملات الرقمية في البنوك المركزية يرسم مستقبل النظام النقدي
(النهار)-05/06/2024
يشهد العالم تحوّلاً هائلاً في مجال النقود مع صعود العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs) كبديل واعد للنقود الورقية التقليدية. وتُظهر الدول العربية اهتماماً متزايداً بهذا المجال، حيث تُجري العديد من البنوك المركزية دراسات وتجارب لإطلاق عملاتها الرقمية الخاصة.
وكان مصرف قطر المركزي قد أطلق مشروع العملة الرقمية، الذي يستهدف تسوية المدفوعات ذات القيمة العالية، مع مجموعة من المصارف المحلية والدولية، وسيدخل المشروع في مرحلته التجريبية الأولى الممتدة إلى تشرين الأول (أكتوبر) 2024.
واستعدت الإمارات خلال نيسان (أبريل) 2024، لإنجاز المرحلة الأولى من استراتيجية المصرف المركزي للعملة الرقمية “الدرهم الرقمي”. وتأتي هذه الخطوة استكمالاً للتشغيل التجريبي لمشروع “الجسر” للعملات الرقمية للبنوك المركزية العابرة للحدود بالتعاون مع سلطة النقد في هونغ كونغ، وبنك تايلاند، ومعهد العملات الرقمية التابع لبنك الشعب الصيني، وبنك التسويات الدولية في 2022، الذي تم من خلاله إنجاز معاملات مالية ذات قيمة حقيقية. وساهمت هذه المبادرات في جهوزية المصرف المركزي الإماراتي لتنفيذ استراتيجيته للعملة الرقمية الخاصة به.
وخلال عام 2019، شرع المصرفان المركزيان السعودي والإماراتي في تطوير مشروع مشترك لأول عملة رقمية عربية، تحمل اسم “عابر”. واستخدمت بوصفها وحدة تسوية لعمليات البنوك التجارية في البلدين، المحلية وبين حدود البلدين. واستخدامها كان قصراً على المؤسسات والبنوك المشاركة، ولم تكن متاحة للتداول بين الأفراد. وحصل المشروع على جائزة “التأثير العالمي 2021” الممنوحة من قبل مجلة “سنترال بانكينغ”.
وفي هذا الإطار، لفت عاصم جلال، استشاري العلوم الإدارية وتكنولوجيا المعلومات في G&K، في حديثه لـ”النهار” إلى أنّ “السبب الرئيسي الذي يدفع بالمصارف المركزية إلى الانتقال للعملات الرقمية، هو عدم كفاءة النظام المبني على العملات الورقية، والذي يعتمد على مبدأ المقاصة التقليدي، للتحويلات بين البنوك. وبالتالي هو يعجز عن تسديد معاملات التحويلات المالية الضخمة بشكل آني، كما أنّ هذه المعاملات قد تحتاج لأكثر من يوم لتنجز، فيما احتمالات عدم الكفاءة فيها عالية. أمّا النظام الرقمي، فهو أسرع، ولا يحتاج إلى مقاصة”.
أمّا في ما خصّ التحويلات بين الأفراد، “فيساعد نظام العملات الرقمية على مقاومة غسل الأموال، وتمويل الإرهاب، حيث يمكن مراقبة حركة هذه التحويلات بطريقة أوضح. كما لن يحتاج الفرد إلى حساب مصرفي للتعامل بالعملة الرقمية، وهو أمر مهم جداً، ويتعارض مع الشمول المالي. فالمؤسسات المصرفية على مدى سنوات كانت تقنع المواطنين بانضمامهم إلى هذا النظام، أمّا اليوم فأصبحت العملات الرقمية تسمح بخروج الأشخاص عن النظام المصرفي”، بحسب جلال.
وهنا يجب الفصل بين العملات الرقميّة، والعملات المشفّرة، كالـ”بيتكوين” وغيرها، حيث تُعد العملة الرقمية للبنوك المركزية المُصدرة والمدعومة من المصرف المركزي شكلاً من أشكال النقود الرقمية الخالية من المخاطر والمخزنة للقيمة، وهي نوع من مكافئ رقمي للعملات الورقية، وتتميز بكونها وسيلة أكثر أماناً وسرعة لإجراء المدفوعات عبر الحدود وبتكلفة منخفضة. أمّا العملات المشفّرة، فهي غير مرتبطة بأيّ مصرف مركزي، وتتمّ بدون وجود وسيط مركزي، وكميّة إنتاجها مرتبطة بالمعادلة التي تنتجها، وبالتالي التحكّم بكميّة العملات الموجودة في السوق خاضعة لقوانين العرض والطلب والمضاربة، والاستثمار فيها خطير.
“وتكلفة إنتاج العملة الرقمية يتوقّف على التكنولوجيا التي تستخدمها المصارف المركزية”، يقول جلال، “فتكنولوجيا التعدين التي تستخدم في العملات المشفّرة، مكلفة جداً. أمّا في حالة العملات الرقمية الخاصة بالمصارف المركزية، فإنتاج العملة نفسها لن يكون بنفس التكلفة العالية للعملات المشفرة، إلا أنّ الكلفة ستذهب لتهيئة البنية التحتية، وتمكينها من استيعاب المعاملات الرقمية”.
“كذلك هناك تكلفة أخرى غير مباشرة، وهي في بناء الثقة لدى المستخدمين بالعملات والمعاملات الرقمية”، يشرح استشاري العلوم الإدارية وتكنولوجيا المعلومات، “فهناك العديد من الأشخاص الذين عانوا من سرقة محفظاتهم الإلكترونيّة، ما منعهم من استردادها. بينما في حالة المصارف التقليدية، عندما يتعرّض صاحب الحساب لأيّ عمليّة سرقة لبطاقته، أو إذا نسي شيفرة حسابه أو رقم حسابه، يستطيع الرجوع إلى المصرف واسترجاعها”. وتفتح هذه الإشكاليّة، مسألة الأمن السيبراني، والجرائم السيبرانية، وجهود الدول العربية لتطويره.
وتسهم العملات الرقمية بزيادة الوصول إلى أسواق رأس المال للبنوك العاملة في الدولة، وتعزيز التسوية المحلية والفورية، بالإضافة إلى تحسين كفاءة معاملات الأوراق المالية، فضلاً عن الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي وتقنية السجلات اللامركزية والتقنيات الناشئة. كما تسمح بإنشاء أسس قوية لتعزيز السيولة من خلال توسيع المشاركة في تسهيلات الأسواق المالية، وتعزيز كفاءة الأنظمة الحالية والبنية التحتية للمدفوعات في الدولة، عبر توفير قنوات إضافية قوية للمدفوعات المحلية والدولية وتعزيز الشمول المالي والتحرك نحو مجتمع غير نقدي، ما يضمن نظاماً مالياً مرناً وموثوقاً.
وعلى الرغم من عدم وجود مشكلة ملحّة مع العملات الورقية، يضيف جلال، “فإنّ التوجه العالمي للبنوك حول اعتماد العملات الرقمية في التحويلات العابرة للحدود، سيجبر باقي الدول على تطبيق نفس النظام وإلا فستكون كلفة التحويلات لدى الدول التي لا تعتمد النظام الرقمي أعلى بكثير، ما سيهرّب الاستثمارات الأجنبية أيضاً”.
وتواجه الدول العربية بعض التحديات في إطلاق العملات الرقمية للبنوك المركزية، تشمل، 1) الضمانات التنظيمية والقانونية، حيث تفتقر العديد من الدول العربية إلى الأطر القانونية والتنظيمية اللازمة لإطلاق العملات الرقمية للبنوك المركزية. 2) البنية التحتية التكنولوجية، فقد لا تمتلك بعض الدول العربية البنية التحتية التكنولوجية اللازمة لدعم استخدام العملات الرقمية على نطاق واسع. 3) القبول العام، حيث قد يواجه بعض الأفراد والشركات صعوبة في قبول العملات الرقمية للبنوك المركزية كبديل للنقود الورقية.
وعلى الرغم من التحديات، تُظهر الدول العربية التزاماً قوياً بتطوير العملات الرقمية للبنوك المركزية. وتُشير التوقعات إلى أن هذه العملات ستؤدّي دوراً هاماً في مستقبل النظام النقدي العربي خلال السنوات المقبلة.