الصيرفة الرقمية والخضراء تقنيات تكرّس حضورها
في الأسواق والمصارف نتيجة تطوّر الاتصالات حول العالم
لا يُمكن الفصل بين ما تشهده الصناعة المصرفية من تطوُّرات، ولا سيما على صعيد الصيرفة الرقمية أوdigital baking والصيرفة الخضراء، وما يشهده العالم من تطوُّرات هائلة في مجال تكنولوجيا الإتصالات والمعلومات، بل من البديهي القول إن التطور الأول هو نتيجة تلقائية للتطور الثاني، إذ نتج عن ثورة الإتصالات والمعلومات ظهور إقتصاد رقمي فتح الباب واسعاً أمام جذب إستثمارات خارجية وفيرة، وخلق فرص عمل جديدة وتحقيق إنتعاش إقتصادي، ليصبح عنصراً أساسياً لا غنى عنه لتحقيق التنافسية والنمو المستدام.
ويُعد التحوُّل الرقمي محرّكاً قوياً لنمو الإقتصاد العالمي، بحيث يُساهم الإقتصاد الرقمي في أكثر من 15 % من الناتج المحلي الاجمالي العالمي. وبحسب تقديرات البنك الدولي، يُتوقع أن يتضاعف حجم الاقتصاد الرقمي ليصل إلى 23 تريليون دولار في العام 2025، أي ما يقارب الـ 24 % من حجم الإقتصاد العالمي.
إذاً، مع إنتشار ظاهرة التحوُّل الرقمي، والتطوُّر الذي يشهده عالم التواصل الإجتماعي وما صاحبه من عمليات إستخدام الموبايل في إجراء المعاملات المالية (الموبايل بانكنغ)،Mobile Banking سواء في المنزل أو في مقر العمل، لم تعد هناك حاجة للتوجُّه إلى البنك، وتالياً بات لزاماً على المصارف أن تتجاوب مع التطوُّر العالمي وتلبّي الخدمات المصرفية عبر الهاتف والتطبيقات التكنولوجية، مما أدى إلى ظهور ما يُسمّى بالـ digital baking أو «الصيرفة الرقمية»، ولا سيما في دول أوروبا، حيث ظهرت المصارف الرقمية وهو ما جعل الموجة تسير بشكل عكسي، عمّا كان متبعاً في السنوات العشرين الأخيرة، وذلك بتقليص عدد الفروع وبالتالي خفض عدد الموظفين، ليس لترشيد الإنفاق، لكن لتلبية التفاعل مع الظاهرة الجديدة في العمل المصرفي.
ما هي الصيرفة الخضراء؟
بحسب الخبراء، «تقوم عمليات الصيرفة الخضراء على منهجين رئيسيين هما: إدخال مفهوم الصيرفة الخضراء وتطبيقه في العمليات الداخلية للبنك، بالإضافة إلى التمويل المسؤول بيئياً، وتضم أنشطة الصيرفة الخضراء من خلال العمليات الداخلية، وإعتماد الطرق المناسبة لإستخدام الطاقة المتجددة وتقليل البصمة الكربونية. وفي العمليات المصرفية اليومية، تقوم البنوك عادة بتوليد إنبعاثات الكربون من خلال إستخدام الورق والكهرباء والإضاءة وتكييف الهواء والمعدّات الإلكترونية، وكمثال لتطبيق خدمات الصيرفة الخضراء، يجب على البنوك دمج التقنيات غير الورقية في عملياتها الداخلية لمساعدة البيئة كذلك توفير خدمات فعّالة لعملائها».
يضيف الخبراء: «أما التمويل الأخضر، فهو تقديم البنوك المساعدات المالية للمشاريع المسؤولة بيئياً. والغرض من ذلك هو توفير المساعدة المالية للتكنولوجيا الخضراء ومشاريع الحدّ من التلوُّث، وذلك لتقليل إنبعاثات الكربون الخارجية، كما يدعم البنك الصناعات ذات الكفاءة في إستخدام الموارد وتنبعث منها إنبعاثات كربونية منخفضة، حيث إن الأولوية تكون لتمويل الأنشطة التجارية الصديقة للبيئة والصناعات الموفرة للطاقة مثل مشاريع الطاقة المتجدّدة».
ويرى الخبراء أن من «فوائد البنوك الخضراء للعملاء، هي أنها بسيطة وفعّالة من حيث التكلفة والوقت، إذ لا يحتاج العميل إلى الذهاب للمصرف لإجراء المعاملات المصرفية، وبالتالي يُمكنه توفير الوقت كذلك المال. كما يُمكن للخدمات المصرفية الخضراء أن تُقلل من الحاجة إلى فروع باهظة الثمن للبنوك، ومن منظور البنك، يُمكن أن يُقلّل من التكاليف، ويزيد من سرعة الخدمة، ويُوسع نطاقه في السوق، ويُحسّن خدمة العملاء بشكل عام. وبالنسبة إلى البيئة، فإن إعتماد الممارسات المصرفية الخضراء، سيُفيد البيئة بطرق عديدة، ويُمكن للبنوك أن تُفعّل المزيد لمساعدة البيئة من خلال الترويج للخدمات المصرفية الخضراء، وسوف يؤدي إستخدام الممارسات المصرفية الخضراء إلى توفير الطاقة والوقود والورق كذلك الماء».
في الشرح التقني لأهمية وميزات الصيرفة الرقمية والخضراء، يرى الخبراء أنها «تمكّن العميل من إستخدام أحد تطبيقات الهاتف المحمول، للإطّلاع على أرصدة حساباته ومعاملاته البنكية وإنجاز بعض المهام المالية البسيطة عندما يواجه صعوبة في الوصول إلى البنك، غير أن هناك العديد من المزايا التي يُمكنه الحصول عليها من خلال تطبيق الخدمات البنكية عبر الهاتف المحمول، والتي تتضمن، على سبيل المثال لا الحصر، سهولة الوصول إلى حساباته على مدار الساعة وطوال أيام الأسبوع، وإجراء المعاملات البنكية بأمان، وتحويل الأموال، وطلب المعلومات من البنك الخاص به، وإيقاف بطاقة الإئتمان المفقودة أو المسروقة، وغيرها من الميزات».
وإلى جانب سهولة إنجاز المعاملات من خلال الخدمات المصرفية الرقمية، فهي وسيلة أفضل في الحفاظ على السلامة الشخصية وتجنُّب الأمراض، حيث نجد أن المدن المزدحمة بالسكان يكثر فيها إنتشار البكتيريا بمعدّلات عالية. فقد أظهرت دراسة أجريت في العام 2016، أن لوحات مفاتيح ماكينات الصرّاف الآلي في مدينة نيويورك كانت مغطاة بالبكتيريا، حيث تأتي معظم الميكروبات من جلد الإنسان أو الطعام.
كما تُعتبر النقود الورقية إحدى الوسائل الأخرى لنقل البكتيريا، حيث يُمكنها أن تحمل آلاف الميكروبات من خلال إنتقالها من بيئة لأخرى. وفي ظل الإتجاه السائد نحو تحويل الأموال من حساب مصرفي أو بطاقة إئتمانية إلى حسابات فرد آخر، يقل التعامل مع النقود الورقية. ومع زيادة إستخدام محفظة الهاتف المحمول والبطاقات الإئتمانية أو الخصم المباشر، سيقل إستخدام المبالغ النقدية بوجه عام، وهو ما سيؤدي إلى تقليل إحتمالية الإصابة بالأمراض.
وبحسب الخبراء أيضاً، هناك العديد من الميزات التابعة لإستخدام الخدمات المصرفية إلكترونياً، وإطلاق هذا التحوّل الكبير إلى المصارف الرقمية، لتلبية إحتياجات المستخدمين الماليّة المتنوعة نذكر بعضها: إرسال وإستلام الأموال، دفع الفواتير، ودفع رواتب الموظفين، والقيام بعمليات الإيداع والسحب، وبيع وشراء الخدمات والمنتجات، والإستثمار، والتمويل، إنشَاء محفظة رقمية، وتداول العملات الرقمية، والسرعة وتوفير الوقت، ورسوم أقل، إذ من أبرز ميزات تطبيقات الخدمات المصرفية الرقمية أنّها تُتيح رسوماً أقل للخَدمات المصرفية مقارنةً بالبنوك التقليدية، فكل منصّة إلكترونية تطلب رسوماً مختلفة عن غيرها، وبعضها ينافس على تَقديم الرسوم الأقل تكلفة بالنسبة إلى العميل.
في الاطار نفسه، أدرك القطاع المصرفي حول العالم مدى أهمية إستحداث نظم تمويل، تختص بتقديم الدعم المادي للمشروعات الاقتصادية الصديقة للبيئة أو ما تُعرف بمشروعات الإقتصاد الأخضر على الصعيد الإقتصادي، والصيرفة الخضراء على الصعيد المصرفي، وذلك في ظل تصاعد الإهتمام العالمي بالنظام البيئي والتغيُّرات المناخية. وتعني الصيرفة الخضراء تعزيز الممارسات الصديقة للبيئة وتخفيض البصمة الكربونية في الأنشطة المصرفية، والهدف منها هو حماية البيئة لصالح الأجيال الحالية والمستقبلية. وتهدف الصيرفة الخضراء إلى تحسين العمليات والتقنيات إلى جانب جعل عادات العملاء صديقة للبيئة في ما يتعلق بالأنشطة المصرفية. وبدأ العديد من البنوك حول العالم إتخاذ خطوات إيجابية نحو الصيرفة الخضراء، وذلك عن طريق تقديم مجموعة من المنتجات والأنشطة التي تدعم البيئة، مثل الودائع الخضراء والبطاقات الإئتمانية الخضراء، والحساب الجاري الأخضر، وحساب التوفير الأخضر، والرهون العقارية الخضراء، والتمويلات الخضراء مثل مشروعات الزراعة والثروة السمكية والأمن الغذائي.
كل ما تقدم يجعل السؤال التالي مشروعاً: هل ستكون الصيرفة الرقميةbanking digital والصيرفة الخضراء سبباً في تقليص حجم التداول والتعامل مع الصيرفة التقليدية عالمياً وإقليمياً في المستقبل القريب والبعيد، أم أن الإختلاف في المستوى التنموي والإستثماري والإقتصادي والتعليمي والثقافي لدول العالم سيجعل العلاقة بينهما تكاملية من دون أن تلغي إحداهما الأخرى؟
البواب: الصيرفة الرقمية تتطلب أنظمة حماية
يشرح الخبير الاقتصادي الدكتور باسم البواب لمجلة «إتحاد المصارف العربية» أن «الصيرفة الرقمية المنتشرة خصوصاً على الهواتف الذكية، ستحل بالتأكيد مكان قسم كبير من العمليات المصرفية التجارية التقليدية وخصوصا لدى الافراد. أما بالنسبة إلى الشركات فلن تتمكن الصيرفة الرقمية من تلبية الإحتياجات التي تؤمّنها الصيرفة التقليدية بسبب كبر حجم اعمالها، وبسبب إرتباطها بعمليات كبرى مع الخارج يلزمها تقديم تفاصيل لن تتمكن الصيرفة الرقمية من تأمينها».
يضيف البواب: «هذه الأخيرة يُمكن أن تُلبّي التحويلات بين شخص وآخر، بين أب وأولاده في داخل البلد أو خارجه، لكنها ستكون محصورة وهي لن تلغي دور المصارف، ولكن مع الوقت، وبسبب تفضيل الجيل الجديد التعامل وتأدية الخدمات عبر (الأونلاين)، فلا شك في أنها ستأخذ إهتمام وأرباح قسم كبير من السوق التجارية، ولكن على مراحل وشيئاً فشيئاً»، مشدّداً على أن «هذا الأمر لا ينطبق على الشركات، ويُمكن القول إنه من المبكر أن تحل الصيرفة الرقمية مكان الصيرفة التقليدية، خصوصاً أن معاملاتها تمّر عبر المصارف المراسلة، ولكن لا شك في أنه مع مرور الزمن والتطوُّر التكنولوجي، وبعد تطوُّر أنظمة الحماية ضد التزوير والإختلاس، يُمكن أن يتسع نطاق الصيرفة الرقمية، ولكن يمكن الجزم بأن المستقبل هو للصيرفة الرقمية حتى في الدول الفقيرة، لأن التطورات التقنية ولا سيما عبر الهواتف الذكية تمكّن كل طبقات المجتمع من التعامل مع الخدمات المصرفية لسهولتها. فالأجيال المقبلة ستتعاطى مع الإتصال بطريقة تلقائياً مهما كان المستوى التعليمي والمعيشي».
ويرى البواب أن «الأهم في إنتشار الصيرفة الرقمية، التطور التكنولوجي والمستوى الثقافي، والرقابة وحماية البيانات عبر الرقابة التقنية والمصرفية. وحالياً هناك عمليات نصب تحصل ولم تتوقف أو تحاصر رغم الإجراءات القانونية والتقنية المشدّدة».
وفي ما يتعلق بالصيرفة الخضراء يقول البواب: «كلّما زادت نسبة الخدمات الرقمية والمصرفية على الوجه الخصوص، كلّما توسّعت الصيرفة الخضراء، لأن الصيرفة الرقمية تُساهم في تخفيف الفاتورة التشغيلية لإتمام المعاملات المصرفية بشكل تقليدي (توفير وقود، أوراق، حبر)، مما يزيد التوفير على البيئة، وهذا هو التوجه العالمي، لأن إعتماد الحكومة الإلكترونية يُخفف عن الحكومات أعباء وظيفية وتكاليف تشغيلية».
راشد: علاقة تكامل
من جهته، يشرح الخبير الإقتصادي الدكتور منير راشد أنه «بحسب تجربته الخاصة، الصيرفة الرقمية هي إتمام الخدمات المصرفية من دون إستعمال الورق».
يضيف د. راشد: «شخصياً، حين كنتُ أعيش في الولايات المتحدة، كان المصرف الذي أتعامل معه يُرسل لي المعاملات بطريقتين: الإلكترونية وعبر البريد العادي، وهذا الأمر مستمر حتى اليوم، وهذا يعني أن المصارف تتيح للزبائن خيارين، الخدمة الرقمية والخدمة التقليدية وهذا أمر جيد».
ويشير د. راشد الى أنه «في لندن حيث عانت لفترة، هناك خدمات رقمية مصرفية حتى للخدمات العامة مثل التنقل والسوبرماركت. وفي لبنان هناك مشكلة مع المصارف. وبالتالي العلاقة بين الصيرفة التقليدية والرقمية تكاملية، وهذا ما نشهده في أكثر من مؤسسة، لأن هناك أجيالاً لا تعرف كيف تتعامل مع الخدمات الرقمية، وهذا أمر يحصل في كل دول العالم وفي الولايات المتحدة، لافتاً إلى أنه «في لبنان الوضع مربك ومختلف، فدفع الضريبة العقارية مثلاً يتوجب على المكلف الحضور شخصياً الى وزارة المالية للحصول على «كود» و«باسوورد» لدفع الضريبة العقارية المالية، ولهذا يحتاج لبنان إلى أن تكون الخدمتان متاحتين، وهذا ينطبق على كل الدول العربية لإختلاف الثقافات والمستوى التعليمي، إلى حين الإنتقال إلى الصيرفة الرقمية بشكل كلي».
ويختم د. راشد قائلاً: «إن المعاملات الخضراء هي جزء من الصيرفة الرقمية، وتُوفر على البيئة كلفة أكبر، لكن الخطر يكمن بحصول فيروسات أو أن تكون معرّضة للسرقة، لذلك يحتاج الأمر الى مزيد من التحصينات الحقوقية والتقنية للحفاظ على الداتا وحفظ المعلومات».
باسمة عطوي