الاقتصاد السعودي في 2025 .. رحلة نمو واستدامة
(العربية)-28/11/2024
*جمال بنون
في قلب تحولات عالمية متسارعة، حيث تتشابك خيوط الاقتصاد والسياسة، تظهر المملكة العربية السعودية كقصة نجاح مستمرة. كيف يمكن لدولة أن تحتفظ بقوتها المالية وسط عواصف الجيوسياسية؟ وكيف تحافظ على نمو اقتصادي مستدام بينما يعيد العالم ترتيب أولوياته؟
رحلة السعودية نحو تحقيق رؤية 2030. رحلة تتسم بالتحديات والإنجازات. بداية من تعزيز القطاعات غير النفطية وخلق فرص وظيفية جديدة، وصولاً إلى جذب الاستثمارات الأجنبية وتنويع مصادر الدخل.
الإستراتيجيات الحكيمة التي تنفذها المملكة في قطاعات السياحة، والترفيه، والنقل، والخدمات اللوجستية، والصناعة. كيف تحولت رؤية السعودية 2030 من خطة طموحة إلى واقع ملموس يؤثر على حياة الملايين، ويعزز مكانة المملكة كمركز اقتصادي عالمي.
يشهد الاقتصاد العالمي تحسنًا طفيفًا على الرغم من استمرار الصراعات الجيوسياسية المتصاعدة التي يمكن أن تخلق تحديات جديدة على المدى القريب. ومع ذلك، حافظت المملكة على مركزها المالي القوي واستمرت في تنفيذ مشاريعها التنموية وخططها، بفضل السياسات المالية الفعّالة التي وضعتها الحكومة، مما يضمن جاهزيتها لكافة المتغيرات الاقتصادية العالمية. وقد تجاوزت المملكة العديد من الدول في أداء مؤشر مديري المشتريات للقطاع الخاص غير النفطي منذ بداية العام 2024 حتى أكتوبر الماضي، حيث سجلت 56.0 نقطة، وهو ما يعكس قراءات فوق المستوى المحايد 50 نقطة.
فيما يخص تطورات الاقتصاد المحلي، يواصل الاقتصاد السعودي تحقيق نمو مستدام، خصوصًا في الأنشطة غير النفطية على المديين المتوسط والطويل، بفضل التغير الهيكلي في بعض المؤشرات الاقتصادية، وتحسين بيئة الأعمال، ودعم نمو القطاعات الواعدة. أكدت ميزانية العام 2025 استمرار تحقيق رؤية السعودية 2030، حيث بدأت معالم اكتمالها تتحقق واحدة تلو الأخرى. حققت الأنشطة غير النفطية في العام 2023 نموًا إيجابيًا بنسبة 4.4%، واستمر هذا الزخم منذ بداية العام 2024 حتى الربع الثالث من العام نفسه، مسجلة نموًا بنسبة 4.2%. شكلت الأنشطة غير النفطية نحو 52% من إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بفضل النمو في السياحة، الترفيه، النقل، الخدمات اللوجستية، والقطاع الصناعي.
تشير التقديرات الأولية لعام 2024 إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 0.8%، مدفوعًا بارتفاع الناتج المحلي للأنشطة غير النفطية المتوقع أن يسجل نموًا بمعدل 3.7%. وبالنسبة لعام 2025، تُظهِر التوقعات الأولية نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 4.6%، مدعومًا بالنمو في الأنشطة غير النفطية وزيادة إسهام القطاع الخاص، مما يعزز من تطوير سوق العمل المحلي وخلق فرص وظيفية جديدة ومستدامة. تواصل المملكة تنفيذ البرامج والمشاريع ذات العائد الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، ودعم التنوع الاقتصادي، وتحسين بيئة الأعمال لتعزيز جاذبيتها، والإسهام في تحسين الميزان التجاري وزيادة الاستثمارات المحلية والأجنبية.
جهود تطوير القطاع السياحي أسهمت بشكل كبير في تفعيل الأنشطة المرتبطة به، مما أثر على الاستهلاك الخاص. تصدرت المملكة مجموعة العشرين في نمو عدد السياح الدوليين منذ بداية العام 2024 حتى يوليو بزيادة قدرها 10% مقارنة بالفترة المماثلة من العام السابق، واستقبلت 17.5 مليون سائح من الخارج، بزيادة بلغت 73% عن 2019. بالإضافة إلى ذلك، أظهرت معظم مؤشرات الاستثمار الخاص نموًا خلال النصف الأول من 2024، حيث سجل إجمالي تكوين رأس المال الثابت “غير الحكومي” نموًا بنسبة 4.5% مقارنة بالفترة المماثلة من العام السابق، مما يعكس التوسع في استثمارات القطاع الخاص المحلي والأجنبي.
نجحت السعودية في تعزيز مكانتها الاقتصادية من خلال جذب استثمارات أجنبية مباشرة، حيث بلغ صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر 21.2 مليار ريال خلال النصف الأول من هذا العام، مع زيادة عدد التراخيص الاستثمارية بنحو 70% ليصل إلى 5,885 ترخيصًا. تُشكّل الإستراتيجية الوطنية للاستثمار ركيزة أساسية لتحقيق مستهدفات رؤية السعودية 2030، من خلال خلق فرص استثمارية متعددة، تحسين المناخ الاستثماري، وزيادة نسبة مساهمة الاستثمارات من الناتج المحلي من 22% في 2019 إلى 30% في 2030. بلغ عدد المقرات الإقليمية للشركات العالمية في المملكة 540 شركة، متجاوزًا المستهدف البالغ 500 شركة.
تسعى المملكة إلى تعزيز دور القطاع الخاص وشراكته مع القطاع العام، وتحسين البيئة التنظيمية والتشريعية، عبر نظام الاستثمار المحدّث، الذي يهدف إلى تنمية البيئة التنافسية وتذليل العقبات أمام المستثمرين. تراجع معدل البطالة بين السعوديين إلى أدنى مستوى تاريخي له، ليصل إلى 7.1% بنهاية الربع الثاني من هذا العام، بانخفاض 0.5 نقطة مئوية مقارنة بالربع الأول من العام نفسه، بفضل جهود الحكومة في تنويع الاقتصاد وتعزيز القطاعات الواعدة.
يتوقع أن يشهد الميزان التجاري للسعودية تحسنًا بزيادة الصادرات غير النفطية وتقليل الاعتماد على الواردات، في إطار مبادرات رؤية السعودية 2030. يواصل الاقتصاد السعودي تنفيذ البرامج التنموية والإصلاحات، مما يسهم في تنويع وتوسيع القاعدة الاقتصادية، وزيادة الاستثمار والاستهلاك الخاص، وتمكين القطاع الخاص. يعمل صندوق التنمية الوطني على تعزيز النمو المستدام وتنويع القاعدة الاقتصادية لضمان فاعلية برامج الصناديق والبنوك التنموية التابعة له، من خلال ضخ أكثر من 570 مليار ريال بحلول 2030.
يلتزم صندوق الاستثمارات العامة بضخ 150 مليار ريال سنويًا في الاقتصاد المحلي حتى 2025، مما يسهم في رفع مستوى المحتوى المحلي إلى 60% في الصندوق والشركات التابعة له. تواصل المملكة تنفيذ الإستراتيجية الوطنية للصناعة لإنشاء مركز إقليمي صناعي متكامل، يركز على 12 قطاعًا استراتيجيًا لتنويع الاقتصاد الصناعي، مضاعفة الناتج المحلي الصناعي، وزيادة الصادرات الصناعية.
يشهد القطاع الرياضي في المملكة تحولًا ملحوظًا يتماشى مع مستهدفات رؤية السعودية 2030، مع استضافة فعاليات عالمية مثل كأس آسيا 2027، ودورة الألعاب الآسيوية الشتوية 2029 في مشروع تروجينا، وترشح لاستضافة كأس العالم 2034، واستضافة أول نسخة للألعاب الأولمبية للرياضات الإلكترونية في 2025، مما يعزز مكانة المملكة كمركز رياضي متنوع وجاذب للاستثمار. كل هذه الجهود تساهم في تعزيز مكانة المملكة في الساحة الدولية وتحقيق التنمية الشاملة وتحسين جودة الحياة.
فيما تواصل السعودية تنفيذ إستراتيجياتها للتحول الاقتصادي وتعزيز استدامة المالية العامة، وتحقيق المستهدفات التنموية الشاملة التي تدعم مرونة الاقتصاد وتعزز متانته. تستمر جهودها في تطوير أداء المالية العامة لتسريع تحقيق هذه المستهدفات. تشير التقديرات المحدثة لعام 2024 إلى تسجيل عجز في الميزانية بنحو 115 مليار ريال ما يعادل 2.8% من الناتج المحلي الإجمالي، مع توقع استمرار تسجيل عجز في الميزانية على المدى المتوسط عند مستويات مقاربة، نتيجة تبني الحكومة سياسات الإنفاق التوسعي الداعم للنمو الاقتصادي.
تم تخصيص 526 مليار ريال لقطاعات التعليم والصحة والتنمية الاجتماعية والخدمات البلدية، استمرارًا لنهج المملكة في التركيز على الإنسان وتوفير جميع سبل العيش الكريم وتحسين جودة حياته. يعود ارتفاع إجمالي النفقات لعام 2024 بنسبة 7.5% عن الميزانية المعتمدة إلى رغبة الحكومة في استكمال تنفيذ المبادرات التحولية والمشاريع الإستراتيجية لتحقيق التنمية الشاملة في جميع قطاعات المملكة. شكل تطوير البنية التحتية ركيزة أساسية في إستراتيجية الإنفاق الحكومي، حيث تهدف السعودية إلى ترسيخ مكانتها كمركز لوجستي عالمي يربط القارات الثلاث من خلال مواصلة الاستثمار في مشاريع تحديث وتوسيع شبكات النقل والمطارات والموانئ.
تشير التقديرات إلى أن إجمالي الإيرادات في عام 2025 سيبلغ حوالي 1,184 مليار ريال، بانخفاض بنسبة 3.7% عن المتوقع تحقيقه في عام 2024، نتيجة للتقديرات المتحفظة التي تتبناها الحكومة تحسبًا لأي تطورات قد تطرأ على الاقتصادين المحلي والعالمي. أسهمت المبادرات والإصلاحات الهيكلية تحت مظلة رؤية السعودية 2030 في تنويع الاقتصاد وتعزيز الإيرادات غير النفطية، حيث ساعد استمرار التحسن في الأنشطة الاقتصادية في نمو إسهام الإيرادات غير النفطية بشكل ملحوظ منذ إطلاق الرؤية. من المتوقع أن يبلغ إجمالي الإيرادات حوالي 1,230 مليار ريال لعام 2024، بارتفاع نسبته 1.4% مقارنة بالعام السابق، مدعومًا بزيادة الإيرادات النفطية وغير النفطية.
بلغ إجمالي عمليات التمويل الحكومية حتى الربع الثالث من عام 2024 حوالي 185 مليار ريال، شاملة عمليات إعادة الشراء المبكر المحلية والتمويل الحكومي البديل، كما تم سداد مدفوعات أصل الدين بحوالي 78 مليار ريال. يُعزى زيادة الدين إلى تمويل الاحتياجات التنموية في المشاريع والإستراتيجيات بما لا يتعارض مع صندوق الاستثمارات العامة والقطاع الخاص. من المتوقع أن يرتفع حجم محفظة الدين العام بنهاية عام 2024 إلى نحو 1,199 مليار ريال أي ما يعادل 29.3% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بـ 1,050 مليار ريال ما يعادل 26.2% من الناتج المحلي الإجمالي للعام السابق 2023.
في ظل التحديات التي يواجهها الاقتصاد العالمي، تركز السياسة المالية في المملكة خلال عام 2025 والمدى المتوسط على الحفاظ على قوة مركزها المالي وضمان استدامة الدين العام. تسعى الحكومة إلى الحفاظ على مستويات مقبولة من الدين العام واحتياطيات مالية كبيرة، مما يعكس قدرتها على إدارة الدين بشكل فعال ومستدام. ولتحقيق ذلك، تم تطبيق العديد من المبادرات والإصلاحات الهيكلية خلال السنوات الماضية لتعزيز الإيرادات غير النفطية وضمان وجود مصادر دخل مستقرة ومستدامة على المدى الطويل، بعيدًا عن تقلبات أسواق النفط، وذلك لتمويل المشاريع التنموية والنفقات ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي.
تأتي ميزانية السعودية لعام 2025 كدليل على التزام المملكة بالاستمرار في تحقيق رؤيتها الطموحة لعام 2030. من خلال التركيز على تنويع الاقتصاد، وتعزيز استدامة المالية العامة، ودعم القطاعات الواعدة، نجحت المملكة في تعزيز مكانتها الاقتصادية على الصعيدين الإقليمي والدولي. لم تؤثر الأحداث الجيوسياسية على حركة التنمية واستقطاب الاستثمارات المحلية والأجنبية، وذلك بفضل السياسات المالية الفعّالة والجهود المستمرة لتحسين بيئة الأعمال.
تحقيق نمو اقتصادي مستدام يأتي بفضل استمرار دعم القطاعات غير النفطية وزيادة إسهام القطاع الخاص في الاقتصاد المحلي. تعزيز الاستثمارات الأجنبية والمحلية يتم من خلال تنفيذ المزيد من الإصلاحات الهيكلية وتحسين المناخ الاستثماري لجذب الاستثمارات النوعية. تطوير البنية التحتية لضمان تحقيق مكانة المملكة كمركز لوجستي عالمي يربط بين القارات. رفع جودة الحياة يتحقق من خلال الاستثمار في قطاعات التعليم، والصحة، والتنمية الاجتماعية، وتحسين الخدمات المقدمة للمواطنين والمقيمين. تمكين القطاع الخاص وزيادة مساهمته في الاقتصاد يسهم في خلق فرص وظيفية جديدة ومستدامة. كما تسعى المملكة إلى تعزيز مكانتها في المجال الرياضي والسياحي عبر استضافة الفعاليات العالمية الكبرى وتطوير البنية التحتية الرياضية والسياحية.ختامًا، تُظهِر ميزانية 2025 التزام المملكة بالتحول الاقتصادي المستدام وتحقيق أهداف رؤية 2030، مع التركيز على بناء مستقبل مزدهر للأجيال القادمة.