السباق بين الفيدرالي والأوروبي على أشده
رحلة سعر الفائدة المرتفع تواصل العودة إلى نقطة الانطلاق
إن قرار البنك المركزي الأميركي (الإحتياطي الفيدرالي) في أيلول/ سبتمبر، الرامي إلى تخفيض سعر الفائدة بواقع نصف نقطه مئوية بدلاً من ربع نقطة وكما كان متوقعاً، إن دلّ على شيء فإنه يدل على ضرورة القيام بخطوة سريعة زمنياً وبالحجم أيضاً إحتساباً من أي تطور إقتصادي قد تكون له تداعيات على الانتخابات الرئاسية المرتقبة في تشرين الثاني/نوفمبر القادم، حيث إن الإجتماع الذي قرّر خلاله الإحتياطي الفيدرالي تخفيض الفائدة هو الأخير قبل انتخابات الرئاسة الأميركية، ومن شأنه أن يعطي دفعة قوية للمواطن الأميركي على مستوى قدرته الشرائية، حيث إن هذا المواطن نفسه موجود منذ فترة بين فكّي كمّاشة، معدل أسعار مرتفع (تضخم) وتكلفة إقتراض مرتفعة (فائدة عالية).
البنك المركزي الأميركي ورغم استقلاليته عن السياسة حاول من خطوته هذه أن يمهّد الأرضية لأي مرشح قد يفوز في الانتخابات ديموقراطياً كان أم جمهورياً لأن الإقتصاد القوي من مصلحة الجميع، علماً أن المرشح الجمهوري القوي دونالد ترامب حاول مراراً أن يتدخل في سياسة بنك بلاده المركزي وينتقد سياسات البنك النقدية ولا سيما سياسة أسعار الفائدة، لدرجة أنه إتّهم البنك المركزي بأنه أصبح مسيّساً، ورأى بالتخفيض الأخير أن الدافع وراء ذلك ربما يكون لعبة سياسية تستفيد منها المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس وإما أن الإقتصاد بحالة سيئة ويحتاج إلى دعم.
هذا على الصعيد الأميركي الداخلي، لكن إذا نظرنا إلى طبيعة الظروف وما تقتضيه الضرورة، فنجد أن البنك المركزي الأميركي عمل على مدى سنوات سابقة، بما فيها فترة جائحة الكوفيد، على تخفيض سعر الفائدة لتسهيل عمل المؤسسات المصرفية باتجاه المستثمرين والمقترضين، حتى قاربت الفائدة المصرفية عتبة الصفر في المئة. هذا السيناريو تم إتباعه أيضاً في منطقة اليورو، وخفّض البنك المركزي الأوروبي سعر الفائدة على دفعات حتى تصل إلى مستوى قرابة الصفر وأحياناً إلى الصفر في المئة، أمام قروض رخيصة وبأحجام كبيرة وحركة إستهلاك قوية وحرب أوكرانيا وأزمة تصدير الحبوب، حيث إرتفعت الأسعار عالمياً وهبّت رياح التضخُّم (ارتفاع الأسعار) وهدمت إقتصادات العديد من الدول الغربية والعربية، وكذلك سياسة البنوك المركزية العالمية الكبرى التي تحرص على الحفاظ على مستوى وسطي لإرتفاع الأسعار لا يتعدى نسبة 2 في المئة، كما هي السياسة النقدية الأميركية والأوروبية.
أمام ظاهرة التضخم المتسارع والذي بلغ مستويات مرتفعة تخطت 5 و 6 و7 في المئة وحتى 9 في المئة في البلدان الصناعية، سارعت البنوك المركزية إلى حظر رفع الفائدة على دفعات متسارعة منذ عام 2022 بهدف احتواء معدّلات الأسعار بالهبوط تدريجياً.
وبلغت أسعار الفائدة المستويات الأعلى في 23 عاماً ما بين 5.25 في المئة و5.5 في المئة في الولايات المتحدة كما اقتربت من (4 في المئة) في منطقة اليورو، هذه الفوائد العالية أدّت إلى تراجع حجم الإقراض مع تكلفة قروض مرتفعة، وبالتالي تراجعت شهية الأفراد على القروض الإستهلاكية ، وهذا كان هدف رفع الفائدة بنيّة خفض الأسعار من خلال الإحجام عن الإقتراض واللجوء إلى سياسة الإيداع طمعاً بفوائد عالية.
أمام واقع جديد مهدّداً بأسعار فائدة عالية، أدّت إلى حركة إستهلاك محدودة وإقراض متراجع ولا سيما القروض العقارية، مما أدّى إلى تراجع الطلب على شراء الشقق، بعدما كان المشهد مسيّراً في السنوات القليلة الماضية والذي إستفاد من سياسة التيسير النقدي (QE) «Quantitative Easing» حيث بدأها الإحتياطي الفيدرالي أيام فترة حاكمية Ben Bernanke والتي إعتُمدت في العام 2010 بعد أزمة العقارات والمال الأميركية والتي أصبحت عالمية، التيسير النقدي إتّبعه أيضاً البنك المركزي الأوروبي أيام حاكمية الإيطالي Mario Dragy.
فاليوم أصبح التضخُّم تحت السيطرة إلى حدٍ كبير ولم تعد هناك حاجة لبقاء أسعار الفائدة مرتفعة. فبدأت رحلة الصعود بالعودة إلى الأسفل تدريجياً وبات مؤكداً أن الأشهر القادمة ستحمل معها مفاجآت ومستويات جديدة لسعر الفائدة هبوطاً لأن من المؤكد أن البنوك المركزية التي باشرت برفع الفائدة لإحتواء التضخُّم تسرّعت بقرار رفع الفائدة بخطى عالية بدلاً من رفع الفائدة بمستويات صغيرة على فترات زمنية تحت السيطرة. وهذه السرعة أدّت إلى ارتباك في سوق الإقتصاد الأميركي والأوروبي مما أثر على التوظيف، حيث أصبح تمويل الإقتصاد مكلفاً بالنسبة لشركات غير قادرة على تحمّل عبء القروض.
اليوم دخلنا حقبة جديدة من السياسة النقدية هدفها دعم الإقتصاد وخلق وظائف أو على الأقل الحفاظ على معدلات بطالة منخفضة، فرحلة تخفيض الفوائد ستشجع على الإستهلاك من جديد وعلى الإستثمار، ولكن يجب أن يكون ذلك منضبطاً ومدروساً وإلا سيؤدي الإقبال المتزايد على الشراء والإستهلاك إلى عودة الأسعار إلى الارتفاع تدريجياً وندخل من جديد في دوامة التضخم.
القرار الأميركي برفع الفائدة تبعته قرارات متشابهة في البنوك الخليجية التي ترتبط عملاتها بالدولار الأميركي، ما يعني أن القرار الأميركي ليس له تداعيات محلية فقط بل عالمية وعربية، كما هي الحال منذ عقود، بمعزل عمّا إذا كانت الإقتصادات الخليجية بحاجة أم لا لفائدة عالية أو متدنية بحسب القرار الأميركي. فعندما تسير البنوك الخليجية المركزية بالاتجاه نفسه تحافظ على جاذبية عملتها قوية أمام الدولار عبر التحرّك باتجاه واحد.
رئيس الإحتياطي الفيدرالي Jerome Powell قال عقب قرار تخفيض سعر الفائدة بواقع نصف نقطة مئوية إلى نطاق 4.75 في المئة – 5 في المئة في أول قرار خفض منذ العام 2020: إن «سوق العمل في حالة جيدة بالفعل ونيتنا من خلال تحرّكنا اليوم هي الحفاظ عليها». وكانت الأسواق الأميركية وحتى العالمية تخشى من أن تؤدي عمليات خفض بأقل من 50 نقطة أساس، إلى إذكاء المخاوف من إبطاء أكبر في سوق العمل الأميركي المتباطئة أصلاً. حاكم الفيدرالي قال إن الإقتصاد لا يزال قوياً وبعد تراجع التضخم يجب الحفاظ على معدلات البطالة منخفضة وهي حالياً عند 4.2 في المئة.
قرار الإحتياطي الفيدرالي خفض الفائدة له تداعيات كثيرة ومن أبرز هذه التداعيات مزيد من الإقتراض، الأمر الذي يؤدي لزيادة في السيولة، وهذه الأخيرة تذهب إما باتجاه الإستثمار وتنمية المشاريع، وبالتالي التوظيف إذا كانت هناك حاجة إضافية ليد عاملة، إما تذهب للإستهلاك أو كليهما معاً. هذا يعني أيضاً زيادة في الإنتاج والإستهلاك.
مع خفض الفائدة تتجه فيه نيّة المودعين، أفراداً كانوا أم شركات، نحو الإستثمار مباشرة أو شراء المعدن الأصفر (الذهب) الذي يبقى ملاذاً آمناً عند تقلّب الأسعار والفوائد، وهذا ما فسّر الارتفاع المفاجىء لأونصة الذهب غداة قرار الإحتياطي الفيدرالي والذي تخطى 2600 دولار للأونصة قبل تقلب السعر في سوق المواد الأولية. بعض المودعين الذين خسروا من العائد على ودائعهم بعد خفض الفائدة يتوجهون نحو الإستثمار بأسواق المال. وهذا صحيح أيضاً حيث تفاعلت أسواق الأسهم إيجاباً غداة خفض الفائدة. ولا ننسى أن الإقتصاد الأميركي يشكّل 24 في المئة من الناتج المحلي العالمي، وبالتالي فهو الأقوى في العالم وصحة هذا الإقتصاد الجيدة تنعكس إيجاباً على الأسواق العالمية، فالقرار الأميركي تبعته وستتبعه قرارات بنوك مركزية كبرى حول العالم تتأثر بالخفض الأميركي لسعر الفائدة، وبالتالي سنشهد مزيداً من السيولة النقدية التي ستغادر البنوك نحو الأسواق.
ويتوقع كبار المحلّلين في الولايات المتحدة أن يقوم الإحتياطي الفيدرالي بتخفيض آخر هذا العام ربما بربع نقطة مئوية وذلك خلال أحد الإجتماعين المتبقيين للبنك في تشرين الثاني/نوفمبر وكانون الأول/ديسمبر المقبلين. وقد باشرت بنوك مركزية حول العالم بمرحلة خفض أسعار الفائدة، ونذكر منها الكندي السويدي، والسويسري، والبريطاني، والأوروبي المركزي.
البنك المركزي لمنطقة اليورو بدأ رحلة العودة إلى المربع الأول قبل الإحتياطي الفيدرالي الأميركي، فالبنك المركزي الأوروبي إستدرك خطورة رفع الفائدة التي نفّذها على دفعات متتالية لمواجهة التضخّم الذي تفشّى وإزداد حدّة مع الحرب الروسية على أوكرانيا، وما لهذه الحرب من تداعيات على أسعار السلع والحبوب والمحروقات، وخفّض البنك توقعاته لمنطقة اليورو، إذ بات يتوقع حالياً نسبة نمو بواقع 0.8 في المئة للمنطقة بدلاً من 0.9 في المئة توقعها سابقاً، كما تراجعت توقعاته بالنسبة للعام 2025 من 1.4 في المئة إلى 1.3 في المئة. أمام هذا المشهد ومع تراجع معدلات التضخم في منطقة اليورو ككل قرّر البنك المركزي الأوروبي من حزيران/يونيو الماضي تخفيض الفائدة بواقع ربع نقطة إلى 3.75 وتلك كانت المرة الأولى يخفّض فيها الأوروبي الفائدة منذ خمس سنوات.
ومع هذا التخفيض الأول يكون المركزي الأوروبي سبق نظيره الأميركي إلى هذه الخطوة التي بادر إليها وكررها في أيلول/سبتمبر 2024 بواقع ربع نقطة أيضاً إلى 3.5 في المئة، حيث أظهر الإقتصادان الأول والثاني في اليورو (ألمانيا وفرنسا) تباطؤاً في تضخُّم ما دون نسبة 2 في المئة التي يهدف إليها البنك المركزي الأوروبي، البنك يشير إلى أن قرارات أسعار الفائدة المستقبلية ستستند إلى البيانات الإقتصادية الواردة. وتظهر بيانات Refinitiv وهي أحد أكبر مزودي البيانات الإقتصادية عالمياً، إذ إن المستثمرين يقومون بتسعير سلسلة حادة من تخفيضات أسعار الفائدة على جانبي الأطلسي، بمقدار عشرة تخفيضات ربع نقطة مئوية من الفيدرالي الأميركي على مدى الأشهر الـ12 المقبلة، والبيانات نفسها توقعت تنفيذ سبعة تخفيضات من المركزي الأوروبي بمقدار ربع نقطة مئوية في كل عملية خفض خلال الشهور الـ12 المقبلة أيضاً.
في كل الأحوال تخفيض الفائدة اليوم في الولايات المتحدة له بُعده السياسي عشية الإنتخابات الرئاسية كما له بُعده الإقتصادي وهو الحفاظ على إقتصاد متين تواكبه حركة قروض قليلة التكلفة بهدف مواكبة النمو الإقتصادي. وفي الجانب الأوروبي يأتي تخفيض الفائدة للحفاظ على إقتصاد قوي لليورو بعدما استقرّت معدلات التضخّم أيضاً، لكن هذا الخفض لن يكون له الفائدة على أزمة تعاني منها بلدان اليورو اليوم وهي أزمة الموازنات وعجز هذه الموازنات الذي يتخطّى معدل 3 في المئة من الناتج المحلي المسموح به في معاهدة الإستقرار النقدي والمالي ماستريخت، وبالتالي ستظل المخاطر تحدق بالسياسات المالية في منطقة اليورو حتى ولو حافظت السياسة النقدية على مراقبتها لمعدلات التضخم وقوة العملة الموحدة، وقد يكون هذا هو ضعف منطقة اليورو اليوم لتحصد خطأها الذي ارتكبته في التسعينيات، عندما تقرّر إنشاء بنك مركزي أوروبي مع سياسة نقدية موحدة (عملة اليورو) لكن لم يكمل الأوروبيون مشروعهم لوضع سياسة مالية موحدة توحد سياسة الموازنات وتتفادى قنابل محلية موقوتة تهدّد سياسات دول وحكومات، كما هو التحدّي اليوم أمام الحكومة الفرنسية الجديدة.
إن خفض الفائدة لدى البنوك المركزية أمرٌ جيد من شأنه أن يقوي الإقتصاد والأعمال ويعزّز القروض والتوظيف ويستفيد منه كل من يريد أن يقتنص فرصة كشراء سيارة أو عقار، لكن خفض الفائدة إلى مستويات متدنية وبسرعة قد يدفع بزيادة وتيرة الإقتراض والإستهلاك وقد يعيدنا إلى معدّلات تضخُّم عالية، وأيضاً قد يشكّل ذلك (أي خفض الفائدة المتكرّر) تحدّياً للمقترضين الذين سجّلوا قروضاً على فائدة متدنية متقلبة ويتواجدون يوماً ما أمام سداد قروضهم على فائدة عالية عندما يعود التضخُّم وتعود الفائدة للإرتفاع، وهذا يُبقي التحدّي أمام المُقرض والمقترض، حيث إن من الضرورة في مكان أن يكون هناك مستقر وضبط لأسعار الفائدة واحترام السوق ومتطلباتها والمخاطر المحيطة بالقروض، فأسعار الفائدة هي الأوركسترا لمستوى الأسعار، وفي الوقت نفسه وفي الحالة الأوروبية يجب تنفيذ سريع لقواعد ميزانية الإتحاد الأوروبي الجديد لضمان إستقرار الأسعار الذي تسعى البنوك المركزية للحفاظ عليه.