تجارب الدمج المصرفي بدأت منذ القرن 17
ويستلزم تطبيقها شروطاً وقوانين
ليس جديداً الحديث عن الدمج المصرفي وكيفية تطبيقه سواء في لبنان أو في دول العالم أجمع، فالمسار قديم ويعود الى القرن السابع عشر، لتتوالى منذ ذلك الحين تجارب الدول التي عانى قطاعها المصرفي حالات ذعر، أو أزمات وصلت في أحيانٍ كثيرة إلى حدّ الإفلاس، منها على سبيل المثال لا الحصر، ما حصل في الألفية الجديدة في كل من أيسلندا وقبرص، وما تبعه من تنظيم للقطاع المصرفي فيهما. أما لبنانياً فيرتبط مصطلح «إفلاس مصرف» بحادثة إنهيار بنك إنترا في العام 1966، ثم الإنهيار الإقتصادي والمالي والنقدي الذي حصل في العام 2019، من دون أن تتخذ السلطات اللبنانية السياسية والنقدية أي خطوة فاعلة الى الآن لمعالجته، أقلُّه إعادة الهيكلة وتنظيم القطاع المصرفي.
هيكلة المصارف يعني تناسبها مع حجم الإقتصاد
من الناحية الأكاديمية والتقنية، فإن مصطلح إعادة هيكلة القطاع المصرفي يعني تنظيم القطاع، ليُصبح وجوده بأعداده متناسباً مع حجم الإقتصاد. في حالة لبنان، ثمّة تضخُّم كبير في عدد المصارف نسبة الى الواقع الحقيقي لإقتصاده. ففي سويسرا مثلاً، يوجد نحو 10 مصارف، فيما حجم إقتصادها يُعادل نحو 700 مليار دولار، بخلاف لبنان الذي يضم نحو 60 مصرفاً لحجم إقتصاد كان قبل العام 2019 نحو 48 مليار دولار، وحالياً لا يتعدى 22 ملياراً، علماً أنه قبل الازمة فإن 7 من أصل 10 مصارف تستحوذ على نسبة 80 % من الودائع.
أما الدمج، فيعني وفق الخبراء «التأسيس على ما هو موجود لإعادة تنظيم القطاع المصرفي من خلال «إستحواذ» مصارف على أخرى، أي دمج بنك أو أكثر يملك نسبة سيولة إيجابية، مع مصرف أو أكثر يملك نسبة سيولة سلبية، بطريقة تُقلّل نسبة الإنكشاف والمخاطر، وعلى نحو يُمكّن البنك الذي دُمج به من أن يسير بنحو سليم، وأن لا يصل الى مرحلة التعثُّر». بمعنى آخر، «أن على المصرف الدامج القوي والمليء تحمّل البنك المدموج المتعثّر».
ولكن عملية الدمج، وفق الخبراء، «ليست دائماً الوسيلة الناجعة للإنقاذ، مستندين بذلك الى فشل سياسة دمج المصارف التي إتبعت في اليابان إبان أزمة التسعينيات من القرن الماضي، وهذا ما صرّح به البروفسور تاناكا تاكايوكي الذي كان يعمل لدى بنك اليابان للتسليف الطويل الأمد بالقول: «لقد كان على اليابان ضخ رؤوس الأموال على الفور في البنوك، عندما إنهارت فقاعة الأصول، كما هي الحال في تعامل الولايات المتحدة مع الأزمة المالية العالمية في العام 2008».
فوائد الدمج
يشرح أحد المصرفيين أنّ «دمج المصارف يُساعد على تحقيق هدفين: حماية أموال المودعين، وعدم ضعضعة الثقة أكثر فأكثر بالقطاع، بعدما بات الزبائن يلمسون عدم القدرة على تلبية الحدّ الأدنى من طلباتهم».
إذاً، يجب أن يقوم بهذه العملية في هذه الحالة الإستثنائية، المصرف المركزي، «من خلال دمج بنك أو أكثر، يملك فائضاً من السيولة الإيجابية، مع المصرف الذي لديه سيولة سلبية، بطريقة تُقلّل نسبة الإنكشاف والمخاطر. ولكن، على المصرف المركزي أن يُقدّم حوافز، فلن يقبل مصرف لديه سيولة أن يتحمّل عبء مصرف منهار، من دون مردود». ويضيف المصرفي المتخصص «إن إعادة هيكلة المصارف، لتكون مستوفية كل متطلبات «بازل 3»، حيال السيولة ورأس المال وغيرها من المتطلبات التي تفضي إلى استمرارية المصارف، تحتاج الى دراسة معمّقة، لذا ينبغي الإستعانة بشركات متخصّصة لتقييم وضع المصارف والنظر في إمكان إستمراريتها أو دمج بعضها ببعض».
في العام 2020 نشرت شركة «الدولية للمعلومات» دراسة مقارنة بين عدد المصارف والناتج المحلي في بعض الدول، ليتبيّن أنّ لبنان يُعاني تضخماً في القطاع المصرفي. مثلاً، يوجد في بريطانيا 10 مصارف، فيما يبلغ الناتج المحلي 2809 مليارات دولار، أما في لبنان، فيوجد 62 مصرفاً، رغم أن الناتج المحلي قبل الأزمة لم يكن يتعدّى 58 مليار دولار وحالياً لا يتعدى 22 ملياراً. علماً أن ثمّة 7 من المصارف العشرة الأكبر في البلد، والتي تمتلك قرابة 80 % من الودائع، هي في حكم المُفلسة، وفق خبراء إقتصاديين، وإذا أضفنا إليها المصارف الأصغر، يُصبح العدد أكبر».
أسباب إفلاس مصارف لبنان
للتذكير، لقد باتت المصارف في لبنان في حُكم المفلسة، بعدما أقرضت الدولة نحو 34 مليار دولار، إضافة إلى إيداع نحو 30 ملياراً في مصرف لبنان. فـ «الإنكشاف» على القطاع العام، الذي تمّ من أموال المودعين الخاصة، أدّى إلى أن تُصبح مؤونة المصارف أقلّ من رساميلها المُقدّرة بـ23 مليار دولار، وتالياً، لم تعد المصارف تلتزم المعيار المحاسبي الدولي IFRS9، الذي يفرض تأمين حدّ أدنى من المؤونات تجاه توظيفاتها المُعرّضة للمخاطر. عليه، فإن إعادة هيكلة المصارف ورسملتها، تتمّ بإعتماد طرق مختلفة، بحسب الخبراء الاقتصاديين، فإما عبرعملية إنقاذ
(Bail in) من خلال تحويل المودعين الكبار إلى مُساهمين في المصارف، أو عن زيادة الرسملة من خلال إدخال أموال جديدة (Fresh money).
أفيوني: لبنان لا يزال بعيداً عن الدمج والمصارف تعتمد على ميزانيات
لا تمت إلى الواقع بصلة وتتجنّب إعادة الرسملة
يشرح الوزير السابق والخبير المصرفي عادل أفيوني لمجلة «إتحاد المصارف العربية» أنه «من المستحيل وغير المنطقي، القيام في أي عملية دمج بين مصارف متعثّرة، قبل أن تتم عملية إعادة هيكلة كل مصرف على حدة، وقبل ان يقدّم كل مصرف ميزانية واقعية وشفّافة، تُعطي صورة واضحة عن وضعه المالي، ورسملته وديمومته»، مشدّداً على أنه «لا يُمكن القيام بالدمج عشوائياً، إذ إن تقييم واعادة هيكلة كل مصرف هي شرط أساسي لكي يتمكّن المصرف «المليء» من إستيعاب مصرف آخر متعثّر، وإلّا فإن أي عملية دمج عشوائية أو غير مدروسة ستؤدي إلى دمج مصارف متعثّرة، بمصارف أخرى متعثّرة أيضاً، أو قد تكون بدورها بحاجة إلى دعم وإعادة رسملة، وتالياً فإن هذا الأمر سيفاقم الخسائر والأزمات في القطاع المصرفي».
يضيف أفيوني: «إذاً، المنطق المالي يفيد بأن الخطوة الأولى لإنفاذ القطاع تكمن في تقييم أصول كل مصرف ومطلوباته، بطريقة علمية وواقعية وشفافة، وعندها يتضّح ما هي المصارف المتعثّرة، وما هي المصارف القادرة على إعادة الرسملة، والإستمرار وإستيعاب مصارف متعثّرة أخرى»، معتبراً أننا «في لبنان لا نزال بعيدين كل البعد عن مثل هذه الخطوات والإصلاحات، بل إن المصارف اليوم لا تزال تعتمد على أرقام وميزانيات لا تمتُّ إلى الواقع بصلة، وتتشبّث بتقييم غير واقعي، وتتجنّب إعادة الرسملة، وتؤجل وقوع المحظور، والذي يدفع ثمنه المودعون اولاً وأخيراً، بينما أصحاب المصارف يبنون نشاطهم المصرفي الجديد الذي يعتمد على «الفريش دولار»، وكأن الودائع الماضية لم تكن، أو كأنها ليست من مسؤوليتهم».
ويوضح أفيوني أنه «إذا تمّت عملية الدمج بعد إعادة الهيكلة والرسملة، فهذا سيكون له مفعول إيجابي، إذ سيُتيح للمصارف القادرة على إعادة الرسملة، أن تستعيد دورها في تمويل الإقتصاد، بينما تخرج من القطاع المصارف العاجزة عن إعادة الرسملة، إذ عند إعادة الرسملة «يُكرم المصرف أو يُهان»، مؤكداً بأن «القطاع المصرفي اللبناني بعد إعادة هيكلته، سيحتاج إلى عمليات الدمج، لأن عدد المصارف الحالي هو أكبر بكثير من حاجة الإقتصاد. علماً أن إعتماد أعلى المعايير الرقابية والإئتمانية في القطاع المصرفي، سيكون أمراً ضرورياً، لكن كلفته عالية على المصرف».
ويختم أفيوني: «بناء على ما تقدّم، إن الإصلاح الضروري سيكون مكلفاً، وسيجعل من الصعوبة إستمرار المصارف الصغيرة بربحية مقبولة، وتالياً سيصعب إصلاح القطاع، في ظل فرض معايير عالية من الشفافية وإدارة المخاطر، مما سيؤدي حتماً الى مزيد من الدمج، وخروج المصارف العاجزة من السوق المصرفية، جرّاء ما ستتكبّده من تكاليف لن تقوى على تحمُّلها».
سرُّوع: يجب قياس عمليات الدمج مع حجم السوق في المصرف الدامج والمدموج
على صعيد تجارب الدمج إقليمياً وعالمياً، يؤكد الخبير المصرفي الدكتور جو سرُّوع «تبنّي المؤسسات المالية عموماً والمصارف بشكل خاص، إستراتيجيات وسياسات نمو ترتكز من حيث المبدأ على عامود أساسي هو النمو الذاتي، وهو ما يُعرف بالنمو الأقصى الذي ينطلق من قواعد مصرفية محكومة بشكل جيد وعملاني، وتتميّز بطريقة حكيمة إدارياً، وتمتثل للقوانين والتنظيمات المرعيّة الإجراء محلياً ودولياً، في ظل تحوُّل تقني متقدم وجهاز بشري متطوّر ومنتج، وهيكل تنظيمي ديناميكي، يُراعي مبدأ فصل الواجبات وتمييز العمليات». يُضيف د. سرُّوع: «إنطلاقاً من هذا الأساس، فإن سياسة النمو هذه يجب أن تُدعّم بخطة تُحدّد ماهية الأهداف وكيفية الوصول، وتعزيز الموارد البشرية والمالية المطلوبة، وسبل قربها من حوكمة الخطة، إن من ناحية إنضباطها الزمني أو المالي، وإن من ناحية التكاليف والمردود»، معتبراً أنه «يُمكن أن يُعاد النظر بالخطة بما تقتضيه الحاجة من تفعيل أو تصويب أو تفصيل لها.
ماً أن خطة النمو الذاتي الأُفقي، تعني توسع المصرف الجغرافي من خلال فروع جديدة في الداخل والخارج، وتطوير المنتجات الموجودة، وإبتكار منتجات وخدمات جديدة لتطوير المستوى التقني للمصرف وتطوير قدرات الموارد البشرية»، موضحاً أن «هذا يعني تأمين كل ما يلزم لزيادة القدرة التنافسية للمصرف، وتالياً زيادة حصة المصرف المالية والإقتصادية في البلد الموجود فيه، وتمكينه من حماية حقوق المساهمين، كذلك تطوير الخدمات والمنتجات العالية الجودة والتي تلبي حاجات ورغبات عملاء المصرف بأفضل الشروط».ويرى د. سرّوع أنه «من هذا المنطلق الإستراتيجي، يُمكن أن تعمد المصارف التي تمتلك القدرات المالية والتقنية، والتي تكون على بيّنة تامة بالمناخ الإقتصادي الذي تعمل فيه، والفرص المتاحة أمامها في ظل إمكانات النمو، إلى إستشراف أو خلق وملاحقة أي عملية إستحواذ ودمج متاحة أو قد تتاح لسبب أو لآخر في السوق المصرفية والمالية في الداخل أو في الخارج، والتي تُساهم في تحقيق أهداف إستراتيجية نحو المصرف الجاهز والراغب والقادر على إنجاز عملية الإستحواذ والدمج بأفضل الشروط والكفاءة والجودة»، مؤكداً بأن «عملية الإستحواذ التي يجب أن يقوم بها المصرف الدامج هي عملية تقنية ومهنية، وتهدف إلى الوصول نحو تقييم مالي للمصرف المستهدف، من خلال دراسة تقنية وعلمية مستفيضة لموازنة المصرف الذي سيُدمج في الماضي القريب والحاضر، وعليه، يُمكن إستشراف إمكانات مساهمة هذه الدراسة التي يجب أن تكون مبنية على أسس ومعايير معمول بها عملياً ومجرّبة، ولكن يجب قياسها بحسب السوق التي يقع فيها المصرف الدامج والمدموج». ويرى د. سرُّوع أنه «يجب أن ترتكز أي عملية إستحواذ مصرفية ومالية على دراسة مواءمة إستراتيجية، لأنها تشكل أساس العملية بأكملها، والتي تطاول الدمج العملي والعملاني والتقني، ولا سيما الأهم الموارد البشرية التي تُنفذ عملية الدمج، أي عملية الدمج الثقافي – المؤسساتي والذي يختلف من مؤسسة إلى أخرى، أي الإندماج الإنساني والبشري»، مشدّداً على أنه «في حال لم يتم هذا الإندماج، أي قبول الموظفين جميعاً في مؤسسة واحدة، أو تقبُّل أحدهم للآخر بطريقة عفوية وإنسانية، فإن ذلك سيُؤثر سلباً على عملية الإستحواذ برمّتها، ويُحوّلها من فرصة إلى عبء. علماً أن هناك شواهد كثيرة في هذا السياق، منها ما جرى من عمليات تم إبطالها بسبب عدم الإندماج الثقافي».
ويخلص د. سرُّوع إلى نتيجة مفادها، أن عمليات الإستحواذ والدمج ليست موضة كما يحلو للبعض تعريفها، بل هي عملية دقيقة ذات أبعاد وجودية على المصرف الدامج والمصرف المدموج، سواء تمّت العملية جزئياً أو عبر شراء الأسهم أو الدمج الكامل، أي شطب المصرف المدموج والذي يكون في حالة هرمة، نظراً إلى نقص سيولته».
ويختم د. سرُّوع قائلاً: «إن ما تقدم، لا ينطبق على قطاعنا المصرفي في لبنان في الوقت الحالي، ونتعجّب من طرح الإندماج بين المصارف كحل للمشكلة المصرفية الحاصلة، قبل أن تتم إعادة هيكلة المصارف على أسس حديثة ومتقدمة، وتحديد مصير ودائع اللبنانيين، وكيفية الوصول إليها، والضمانات التي تكفل هذا المصير والوصول إلى النتيجة السليمة. علماً أن هناك الكثير من المصارف اللبنانية المتعثّرة، لذا من المهم للمصارف التي ستستمر، هو أن تكون منتجة ومتطوّرة، وهذا لن يكون سهلاً تحقيقه، إذ إن دمج مصرفين غير صحيين، لن يؤدي إلى ولادة مصرف صحي وسليم».