آثار متعدّدة لتصنيف لبنان على اللائحة الرمادية…هل نصل الى السوداء؟
أدرجت مجموعة العمل المالي الدولية (فاتف) لبنان في تشرين الأول (أوكتوبر) 2024، ضمن «القائمة الرمادية» الخاضعة للمراقبة المكثّفة، وهو تصنيف يُفاقم معاناة بلاد الأرز إقتصادياً، في ظل الأزمة المالية المستمرة منذ العام 2019، من دون أن تعمد الحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ ذلك التاريخ، إلى تطبيق الإصلاحات المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي لحل الأزمة، علماً أنه مما زاد الطين بلّة، تزامن هذا التصنيف، مع تصاعُد الضربات الجوية الإسرائيلية والعمليات البريّة على لبنان. ويُشار إلى أن ظروف الحرب الحالية وتداعياتها اللاحقة، دفعت مجموعة العمل المالي إلى منح لبنان مهلة حتى العام 2026 بدلاً من العام 2025، إفساحاً في المجال لمعالجة القضايا التي أدّت إلى إدراجه في القائمة الرمادية، بما في ذلك المخاوف حيال تمويل الإرهاب وعدم إستقلال القضاء.
خسائر وتداعيات
في ميزان الخسائر التي سيتكبّدها لبنان نتيجة هذا التصنيف، يُرجّح الخبراء «أن يؤدي إدراج لبنان في القائمة الرمادية إلى ردع الإستثمار فيه بشكل أكبر، وقد يُؤثر على العلاقة بين بعض البنوك اللبنانية والنظام المالي العالمي»، لافتين الى أنّ «إدراج لبنان على القائمة الرمادية يُمكن أن يُغيّر ديناميكيات المخاطر لدى المصارف المراسلة، لا سيما في ما يتعلّق بالإمتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وهو ما يُجبر المصارف اللبنانية على التكيّف بسرعة للحفاظ على هذه العلاقات الدولية الحيوية».
ويشرح أحد الخبراء، الإجراءات التفصيلية التي ستترتب على هذه الخطوة، سواء في ما يخصّ التأثير عىل العملاء أو المصارف اللبنانية، قائلاً: «سيؤدي هذا الادراج إلى بيئة مصرفية أكثر تقييداً، وسيُواجه العملاء عقبات أكبر في إجراء المعاملات الدولية، في حين ستتعرّض البنوك لضغوط لتعزيز الإمتثال للإحتفاظ بالعلاقات المصرفية الدولية الحيوية».
يضيف هؤلاء الخبراء: «سيُطبّق التدقيق المعزّز، نتيجة قرار مجموعة العمل المعنية بالإجراءات المالية، على نطاق واسع على جميع المعاملات المالية عبر الحدود، فيما يزيد الإدراج على القائمة الرمادية من متطلّبات إمتثال المصارف اللبنانية في جميع المعاملات الدولية، ما يدفعها إلى تطبيق ضوابط أكثر صرامة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في جميع المجالات. هذا يعني أنه سيحتاج جميع العملاء، سواء كانوا أفراداً أو شركات أو مستوردين أو مصدّرين، إلى تقديم وثائق جوهرية تُوضح مصدر الأموال للمعاملات الدولية بدلاً عن الإكتفاء بالتصريح».
وييلفت الخبراء أيضاً إلى «زيادة تكاليف المعاملات، إذ من المرجّح أن تؤدي عمليات الإمتثال الإضافية إلى زيادة تكاليف المعاملات، ما يؤثر على جميع المدفوعات عبر الحدود، وليس فقط تلك التي يقوم بها الأفراد، بالاضافة إلى التأخير وأوقات المعالجة. وستؤدي العناية الواجبة الأكثر صرامة إلى إطالة مهلة المعالجة لجميع التحويلات الدولية، ما يؤثّر على كل من المعاملات الشخصية الروتينية والمعاملات الأكبر المتعلقة بالتجارة، وقد يُبطئ أو يقيّد معاملات البطاقات الصادرة عن لبنان، لا سيما في السياقات العابرة للحدود».
التصنيف والمصارف اللبنانية
والسؤال الذي يُطرح هنا، ما هو التأثير على عملاء المصارف اللبنانية؟ يجيب الخبراء: «بالنسبة إلى العملاء الأفراد، من المرجّح أن تقدم القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي ضوابط أكثر صرامة على المعاملات الشخصية، خصوصاً التحويلات الدولية، كما وسيُطلب من المصارف اللبنانية تعزيز تدقيقها في المعاملات وتطبيق تدابير شاملة لمكافحة غسل الأموال ومكافحة تمويل الإرهاب. وقد يُواجه العملاء تأخيراً في التحويلات ومتطلّبات توثيق متزايدة (سينتقل فحص العملاء من مجرد التصريح إلى إظهار مصدر التمويل)، وإرتفاع تكلفة المعاملات خصوصاً بالنسبة إلى المدفوعات عبر الحدود. وقد يُؤثر ذلك على المغتربين اللبنانيين الذين يدعمون أسرهم، أو أولئك الذين يحتاجون إلى إرسال الأموال إلى الخارج لتغطية النفقات الأساسية».
ويوضح الخبراء أنه «بالنسبة إلى المستوردين والمصدّرين، ستُواجه الشركات المشاركة في الواردات والصادرات تحدّيات متزايدة بسبب متطلّبات المراقبة المتزايدة المرتبطة بالقائمة الرمادية، وقد تخضع المعاملات المالية مع الشركاء الدوليين للتأخير، والعناية الواجبة المعزّزة، وربما الرسوم الإضافية. وقد يجد المستوردون والمصدّرون صعوبة أكبر في إقامة علاقات دولية والحفاظ عليها، لأنّ المصارف المراسلة في بلدان أخرى قد تنظر إلى المعاملات المصرفية اللبنانية على أنها عالية المخاطر. وقد يؤدي هذا التدقيق الإضافي إلى إرتفاع تكاليف التشغيل، وإطالة أوقات معالجة المدفوعات التجارية، والقيود المفروضة على أنواع المعاملات المسموح بها».
في المقابل تتنوّع آراء الخبراء حول تأثير التصنيف على علاقة المصارف اللبنانية مع البنوك المراسلة، إذ يلفت أحد الخبراء إلى أنه «يُثير الإدراج على القائمة الرمادية مخاوف كبيرة للمصارف اللبنانية، لا سيما في الحفاظ على علاقات المراسلة المصرفية وتأمينها. وفي حين نجحت بعض المصارف اللبنانية في الحفاظ على علاقات قوية مع المصارف المراسلة الدولية بعد التخلف عن السداد في آذار/ مارس 2020، يضيف قرار مجموعة العمل المالية (فاتف) ضغوطاً على هذه العلاقات. ويُمكن للبنوك التي تنجح في الإمتثال الصارم لمعايير المجموعة (فاتف) المحدثة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، أن تتجنّب قطع علاقات المراسلة، ولكن فقط إذا حافظت على أُطُر إمتثال قوية تطمئن نظيراتها الأجنبية. ومع ذلك، بالنسبة إلى البنوك التي تكافح بالفعل مع الإمتثال، قد يؤدي قرار مجموعة العمل المالي إلى تكثيف خطر فقدان خدمات المراسلة المصرفية، والحدّ من الوصول إلى تسويات العملات الأجنبية، وإعاقة المعاملات عبر الحدود الضرورية لعملائها».
يضيف أحد الخبراء: «سيُؤثر إدراج لبنان على القائمة الرمادية من قبل مجموعة العمل المالي بالفعل على إستخدام بطاقات الإئتمان والخصم الصادرة عن البنوك اللبنانية، ومن المرجّح أن تُواجه المصارف اللبنانية التي تُودع ودائع أو تدير حسابات لدى مصارف غير مقيمة، تدقيقاً متزايداً في ما يتعلق بشرعية الأموال ومصدرها. وقد تفرض المصارف غير المقيمة عناية واجبة أكثر صرامة، ومراقبة مستمرّة على الأموال الواردة من المؤسسات المالية اللبنانية. وقد يؤدي ذلك إلى خيارات أقل للمصارف اللبنانية لإجراء معاملات في الخارج، ما قد يؤثر على السيولة ويزيد من إنخفاض إحتياطات العملات الأجنبية»، مشدّداً على أنه «قد تحتفظ البنوك التي لديها تدابير إمتثال قوية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب ببعض هذه الإيداعات، لكنها ستحتاج إلى إظهار تحسينات مستمرة لتتماشى مع توصيات مجموعة العمل المالي، وسيُؤثر إدراج لبنان على القائمة الرمادية من قبل مجموعة العمل المالي بالفعل، على إستخدام بطاقات الإئتمان والخصم الصادرة عن البنوك اللبنانية، ما يؤثر على المعاملات المحلية وعبر الحدود على حد سواء، وقد يؤثر الإدراج في القائمة الرمادية على سياسات إصدار البطاقات في المصارف اللبنانية، لا سيما إذا أعادت بعض المصارف المراسلة أو شبكات الدفع تقييم شراكاتها».
وينَبّه الخبراء عموماً إلى أنَّ «الخطورة تكمن في أن تَمُرّ هذه المهلة من دون إحداث أي خَرق إيجابي، لناحية الإلتزام بتَنفيذ الإصلاحات الوارِدة في خُطة العَمَل، مما يزيد خَطَر تَخفيض تَصنيف لُبنان، أو فَرض عقوبات سياسية تتَّخِذُ أشكالاً مالية، عِندَهَا يُصبح الوضع أصعَب خُصوصاً أنَّ البَلَد يَعيش اليوم على التحويلات الخارجيَّة».
وفي تحليلهم لِتَبِعات إدراج لبنان على «اللائحة الرَّماديَّة» يرى الخبراء أنَّ «هذا التَّصنيف لَهُ قيمة معنويَّة أكثر منها إجرائيَّة، لأنه لا يَعني فَرض عقوبات على النظام المَصرفي للبلد المَعني أو مَنع التَّحويلات الماليَّة عَبرَهُ، بل يَنتُج عنه تَشَدُّد المَصارف المُراسِلة لِجِهَة إتمام التَّحويلات الدَّاخلة والخَارجة، كما تتأثر سُمعة البلد وبالتالي قدرته على إستقطاب الإستثمارات وهي غير الموجودة أصلاً في لبنان حالياً».
ويختم الخبراء بالقول: «تعرف المصارف المراسِلة الوضع اللبناني جيداً، فيما تشدّدها في تعاملها مع المصارف اللبنانية قد يكون مُخففاً، بسبب معرفتها الوثيقة للتطوّرات السياسية والإقتصادية الجارية على الساحة اللبنانية منذ 5 سنوات إلى اليوم، وبسبب تَدَنّي حَجم العَمليات التي تَمرّ عبر المصارف كنتيجة لِتَنامي الإقتصاد النَّقدي. وفي مُطلق الأحوال، لبنان بحاجة إلى حُلول ولَيس إلى المزيد من المُشكلات».
قزح: لا إجراءات للخروج من الأزمة الحالية
يرى الخبير المصرفي ميشال قزح في حديث لمجلة «إتحاد المصارف العربية» أن «وضع أي بلد على اللائحة الرمادية هي مقدمة لوضعه لاحقاً على اللائحة السوداء، عبر إعطائه مهلة لا تزيد عن العامين لترتيب أموره المالية والنقدية، وتنظيم قطاعه المصرفي والقيام بإجراءات لمكافحة تبييض الاموال وتمويل الإرهاب والخروج من الإقتصاد النقدي»، لافتاً إلى أن «تداعيات هذا التصنيف على الناس العاديين سيكون مزيداً من التدقيق على التحويلات المالية وشروط أصعب للتحويل، وهذا سينطبق أيضاً على التحويلات الخارجية التي ستصل الى لبنان، حيث سيكون التدقيق بالمعاملات وهوية المرسل والمرسل إليه أكبر، وخصوصاً المعاملات التي تتخطى قيمتها 10 آلاف دولار، حيث سيتم تفنيدها بشكل دقيق».
يختم قزح قائلاً: «إن الادارة الجديدة لمصرف لبنان لم تقم إلى اليوم بأي إجراءات للخروج من الازمة الحالية، بل تُكمل بسياسة التعاميم والترقيع، من دون أن نجد خطة حقيقية للخروج من الإقتصاد النقدي. لا شك في أن لبنان يملك فرصة للخروج من إقتصاد الكاش، وإلا سنجد أنفسنا على اللائحة السوداء، أي أنه سيُصبح بلداً خارج النظام المصرفي العالمي».
راشد: مزيد من التشدُّد الدولي
من جهته، يؤكد الخبير المالي الدكتور منير راشد أن «وضع لبنان على اللائحة الرمادية، يعني أن مؤشرات مكافحة لبنان لجرائم تمويل الإرهاب وتبييض الأموال باتت أسوأ مما كانت عليه، بدل تحسين سمعتنا في مكافحة هذه الجرائم، وهذا يعني أننا لم نقم بخطوات معاكسة لهذا التصنيف، خصوصاً أنه تم تنبيه لبنان من خطورة هذا التصنيف».
ويضيف راشد: «لقد تم إعطاء لبنان حالياً، فرصة حتى العام 2026 (بسبب الحرب)، كي نقوم بإجراءات تُخوّلنا الخروج من المنطقة الرمادية، وتفادي التصنيف المرّ على اللائحة السوداء، وتالياً لدى لبنان فرصة مدتها سنتان، وفي حال لم تنفذ الدولة أي إجراءات إصلاحية، فسيكون على اللائحة السوداء بشكل تلقائي»، مشدّداً على أن «من تداعيات اللائحة الرمادية، التدقيق بالتحويلات بشكل أكبر، وطلب إستفسارات أكثر، خصوصاً التحويلات الكبيرة، ويُمكن أن تزيد فترة وصول التحويلات وزيادة الرسوم والحذر من التعامل مع السوق اللبنانية».
ويختم راشد قائلاً: «إن هذه الخطوة تعني أن كل المؤسسات المالية الدولية ولا سيما (فاتف)، ستتشدد في المراقبة والإنتباه حيال أي إجراء يقوم به كل من المصرف المركزي والحكومة، كما أن هذه الخطوة ستزيد الرقابة على «المركزي» من قبل المؤسسات المالية العالمية، لمعرفة إذا كان يقوم بالاجراءات اللازمة، بالإضافة إلى صعوبة حصول المؤسسات الرسمية اللبنانية على قروض من المؤسسات المالية الدولية، ومن صندوق النقد الدولي بسبب فقدان الثقة بها حيال قيامها بالإصلاحات اللازمة».
باسمة عطوي