«الجنوب العالمي».. طموحات تفوق الواقع الحالي
(البيان)-06/02/2025
محمد العريان*
طوال مسيرتي المهنية، لاحظت تحولاً ملحوظاً في كيفية تصنيف الاقتصاديين والمتعاملين في الأسواق وصناع القرار للدول التي لا تعد «اقتصادات متقدمة».
وبدأت هذه التصنيفات منذ عقود بمصطلحات مثل «العالم الثالث» و«الدول الأقل نمواً»، ثم تطورت إلى «الاقتصادات النامية» و«الاقتصادات الناشئة». وأخيراً، ظهر مفهوم أوسع هو «الجنوب العالمي».
ويشهد الاقتصاد العالمي تحولات عميقة تجعل من الصعوبة بمكان الاعتماد على أساليب التحليل الاقتصادي التقليدية وتقلل من أهميتها كثيراً، وحيث إنها قد تؤدي إلى نتائج غير مرضية بل ضارة.
وفي بعض البلدان، قاد ذلك إلى تفكير مضلل تجاه السياسات التي يتم تبنيها فضلاً عن تطلعات غير واقعية للقوة التفاوضية والاستقلال الاستراتيجي.
كذلك، تتعرض الاتجاهات البنيوية الموحدة مثل التجارة العالمية المتزايدة والتكامل المالي للتقويض والانهيار بسبب نزعات التفتت.
ويمثل فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المزيد من الرسوم الجمركية على الصين والخطوات المماثلة المؤجلة الآن ضد المكسيك وكندا أحدث تصعيد في هذه العملية.
وحذر البنك الدولي في تقريره الأخير حول التوقعات الاقتصادية العالمية لعام 2025، ولنقتبس من عالم يشهد «تراجعاً في فرص التقدم الاقتصادي» بالنسبة للدول الأقل ثراء.
إذ تواجه هذه الدول اقتصاداً عالمياً يتسم بتزايد وتيرة الصدمات الخارجية وشدتها، في وقت تحتاج فيه إلى تعزيز قدراتها للاستفادة من التطورات التكنولوجية مثل الذكاء الاصطناعي.
وفي ظل هذه الظروف المعقدة، سيصبح من الصعب إيجاد حلول للمشكلات سواء على المستوى الفردي أو الجماعي. وهذا يستدعي التخلي عن الأفكار غير الواقعية حول إمكانية تشكيل تحالفات جديدة أو تحقيق استقلال استراتيجي كامل.
في عام 1983، عندما بدأت العمل في برنامج الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي، تعلمت درساً مهماً حول مبدأين أساسيين في عمل الصندوق قد يبدوان متعارضين للبعض: الأول كان التعامل مع جميع البلدان الأعضاء على قدم المساواة والسعي إلى اتباع نهج قائم على التعامل مع كل حالة على حدة بما يتوافق مع ظروفها.
وكان الهدف هو ضمان أن يكون الالتزام بالمبادئ الشاملة المهمة، من أعلى إلى أسفل، مصحوباً بنهج تفصيلي ومخصص يعكس الاختلافات من أسفل إلى أعلى.
وفي سياق مشابه، ظهر مصطلح «الجنوب العالمي» ليعبر عن القواسم المشتركة بين مجموعة من الدول، مع الاعتراف بالفروق الجوهرية بينها.
ويرى البعض في هذا المصطلح أداة مفيدة لتوحيد الجهود وتحقيق أهداف مشتركة، كما يعتبرونه مظلة تجمع تحتها تكتلات اقتصادية مثل مجموعة بريكس.
ولكن القدرة على الانطلاق بقوة بجهود التنمية المحلية من خلال التكامل الاقتصادي والمالي العالمي الأوثق يقوضه «تسليح» تدفقات التجارة والاستثمار وقلة احترام سيادة القانون.
كما يعمل الضعف الحالي للمؤسسات المتعددة الأطراف على تقويض حل النزاعات بين البلدان ومتانة تدابير الدعم، بما في ذلك آليات التأمين المشتركة لمعالجة قضايا مثل أعباء الديون وضعف القدرة على مواجهة تغير المناخ.
ومن غير الواضح أيضاً ما إذا كانت الولايات المتحدة ستتسامح مع ارتفاع قيمة الدولار في الأمد البعيد كمساهم منظم في إعادة تنظيم العالم، وهذا يعني أن البلدان الأقل ثراء قد تتمتع بميزة عملة أقل في المستقبل.
ويأتي كل هذا في وقت حيث من المتوقع، وفقاً للبنك الدولي، أن تنهي مثل هذه الاقتصادات الربع الأول من هذا القرن بأضعف توقعات النمو في الأمد البعيد منذ أكثر من عقدين من الزمان.
يواجه العالم اليوم تحدياً كبيراً يتمثل في تراجع دور التعاون الاقتصادي والمالي الدولي في دفع عجلة التنمية، وذلك بسبب تحول التجارة والاستثمار إلى أدوات للضغط السياسي، إضافة إلى تراجع احترام القوانين الدولية.
كما أن ضعف المؤسسات الدولية يؤثر سلباً على قدرتها في حل النزاعات بين الدول وتقديم المساعدات الضرورية، خصوصاً في مجال معالجة أزمات الديون ومواجهة التغيرات المناخية.
وتزداد المخاوف مع عدم وضوح موقف الولايات المتحدة تجاه ارتفاع قيمة الدولار على المدى الطويل كأداة لإعادة التوازن الاقتصادي العالمي، ما قد يحرم الدول الأقل ثراء من ميزة الاستفادة من فروق أسعار العملات.
وتأتي هذه التحديات في توقيت حرج، حيث يتوقع البنك الدولي أن تسجل هذه الاقتصادات أضعف معدلات نمو لها، منذ عقدين خلال الفترة المتبقية من الربع الأول من القرن الحالي.
إن الميل إلى الفكرة القائلة بأن مجموعة كبيرة من هذه البلدان قادرة على تحقيق الاستقلال الاستراتيجي والازدهار بسرعة في الاستجابة للتهديدات الفعلية والمحتملة تعد غير واقعية.
ولا يتعلق الأمر فقط بالخيارات الجيوسياسية التي ستفرض على العديد من البلدان، باستثناء حفنة من البلدان التي تتمتع بمقومات متنوعة مثل البرازيل والهند والمملكة والإمارات، بل يتعلق الأمر أيضاً بالتفتت البنيوي للنظام الدولي الذي سيؤدي إلى زيادة عدد «تحالفات المصلحة» المتغيرة، وبالنسبة لبعضها، التهميش الخطير.
في ظل هذه التطورات، بدأت تظهر شكوك جدية حول مدى فعالية وأهمية المفاهيم الشاملة مثل «الجنوب العالمي».
ومن المرجح أن يستغرق الأمر وقتاً طويلاً قبل أن يدرك المجتمع الدولي أن المسار الحالي سيؤدي إلى إضعاف المصالح المشتركة للدول وتقويض رفاهية غالبية سكان العالم.
وبينما قد تميل بعض الدول إلى تبني موقف الانتظار على أمل أن تزول التهديدات من تلقاء نفسها، أو الاعتماد على تشكيل تحالفات جديدة، إلا أن هذا النهج لن يكون مجدياً، تماماً مثل الاستمرار في تطبيق السياسات القديمة بشكل آلي دون إعادة النظر فيها.
في ظل الظروف العالمية الراهنة، بات من الضروري لكل دولة أن تتبنى تعديلات بسياساتها تكون أكثر ملاءمة للتوقيت الحالي، وتقوية المرونة المالية، وزيادة المرونة في الاستجابة للصدمات الخارجية المعاكسة.
وسوف تكون هذه الحاجة ماسة في عالم فقد افتراض التقارب العالمي، ويشهد انقسامات أكبر بين البلدان المتقدمة والبلدان الأقل ثراء، فضلاً عن تباعد أكبر داخل المجموعة الأخيرة.
*الكاتب يشغل منصب رئيس كلية كوينز بجامعة كامبريدج ويعمل مستشاراً لشركتي أليانز وجراميرسي