استراتيجيات علمية لإلغاء الدولرة عالمياً: ورقة بحثية مشتركة وإعداد ندوة وخلاصات للبنان
(النهار)-07/03/2025
في حين يُنظَر إلى الدولرة (dollarization) عادةً باعتبارها مؤشراً إلى انفتاح الاقتصاد، فإنّها تعكس أيضاً فشل الدولة في حماية عملتها، وهي نقطة البداية للمناقشات السياسية حول السيادة. وكثيراً ما تنخرط الدول في سياسات وإجراءات واستراتيجيات الخروج من الدولرة (de-dollarization) لاستعادة الثقة بعملاتها المحلية، لا سيما في إطار استعادة الاستقرار النقدي في البلاد. وكلّما كانت الدولرة متجذّرة لسنوات طوال في البلاد كما هي الحال في لبنان، فإنّ هذه المهمّة تُصبح صعبة وتستدعي قراءة علمية لتجارب وخيارات ومؤشرات مختلف البلدان التي نجحت في الخروج من الدولرة المرتفعة، لاستبيان عناصر الاستراتيجية الأنسب للقيام بذلك في لبنان، والتنّبه لعوامل النجاح المؤثرة لهكذا قرار، كما التحدّيات التي يمكن أن تعرقله وتَحدّ من إمكانية تنفيذه كلياً. من هنا اخترنا إعداد هذه الورقة البحثية المشتركة بين البروفسور المتخصِّص بالدولرة من جامعة غرونوبل في فرنسا، والخبير المستشار للدولرة في الاكوادور والبروفسور الجامعي د.فرنسوا بونسو، ونائب حاكم مصرف لبنان د.سليم شاهين (سابقاً بروفسور في العلوم المالية في الجامعة الأميركية في بيروت) والبروفسور المشارك المتخصِّصة في السياسة النقدية د.سهام رزق الله من جامعة القديس يوسف كلية العلوم الاقتصادية، تمهيداً لندوة علمية تتمّ فيها مناقشة خلاصة الورقة ومقاربتها للواقع اللبناني.
تُقدِّم هذه الورقة استعراضاً للإجراءات المالية والنقدية والإدارية التي اتخذتها البلدان «المدولِرة» على مدار تاريخنا الحديث. وتهدف إلى تحديد التسلسل وقائمة أفضل الممارسات التي ينبغي تبنّيها لتخفيض الدولرة وعكس اتجاه تقويض الثقة في العملة المحلية والسيادة، والذي قد يؤثر على الاستقرار المالي والاقتصادي.
تعتمد الدولرة على (1) طبيعة الأصول (أو الالتزامات) المدولرة، (2) مدى الدولرة (كاملة أو جزئية)، و(3) ما إذا كانت العملة الأجنبية، أي بحُكم القانون (de jure)، معتمدَةً رسمياً كعملة قانونية أو أنّها دولرة «بحُكم الأمر الواقع» (de facto).
إنّ الدولرة المالية تُقاس بحصة الودائع بالعملة الأجنبية في النقود بمعناها الواسع، وهو ما يعكس استخدام العملة الأجنبية كقيمة مخزنية أو في المعاملات المحلية (أرماس، إيز، ليفي، ويياتي، 2006). وفي حين يصعب قياس الدولرة الحقيقية التي تشير إلى استخدام العملة الأجنبية كوحدة تصنيفية للمعاملات المحلية (الرواتب والأسعار)، فقد زادت الدولرة النقدية بشكل كبير خلال العقود الأخيرة.
وعادةً ما تنشأ الدولرة نتيجة لفشل العملة المحلية في أداء وظائفها كقيمة مخزنية ووسيلة للدفع ووحدة حسابية. ومن شأن السياق التضخّمي المرتفع مع سعر الصرف الحقيقي غير المستقر أن يدفع العملاء الاقتصاديِّين إلى استبدال العملة في المعاملات والعقود للحفاظ على قدرتهم الشرائية.
إنّ الدولرة هي إشارة إلى التحرير المالي وانفتاح الاقتصاد. كما أنّها تعمل على تخفيف مخاطر سعر الصرف، بالتالي جذب المستثمرين الأجانب، دعم النمو الاقتصادي، وتسهيل التكامل بشكل أكبر في الاقتصاد العالمي.
ومع ذلك، فإنّ الدولرة تحدّ من فعالية السياسة النقدية، وتزيد من مخاطر أزمات السيولة والذعر في القطاع المصرفي في غياب تسهيلات الإقراض كملاذ أخير. وعلاوةً على ذلك، إذا تمّ تبنّيها جزئياً، فقد يؤدّي عدم التوافق بين العملات الأجنبية في الميزانيات العمومية للبنوك إلى زيادة تعرّض القطاع المصرفي إلى تغيّرات أسعار الصرف. وعلى رغم من مزايا الدولرة، فإنّ إلغاء الدولرة يتطلّب إجراءات شاملة من قِبل السلطات.
وفقاً لغاليندو وليديرمان (2005)، فإنّ إلغاء الدولرة يعني خفض الدولرة من مستويات تتجاوز 40% من الودائع أو القروض إلى 20% أو أقل والحفاظ على مستويات منخفضة لأكثر من 5 سنوات متتالية. وتوصّلت أبحاث سابقة إلى أنّ 12 دولة كانت قادرة على تحقيق استراتيجيات إلغاء الدولرة بشكل كامل أو جزئي، منها بولندا، تشيلي، المكسيك، إسرائيل، كرواتيا، المجر، البيرو وغيرها.
تبنّت هذه الدول العديد من السياسات الاقتصادية الكلية، بما في ذلك تخفيف نطاقات أسعار الصرف العائمة، وزيادة الفارق بين أسعار الودائع بالعملة المحلية والأجنبية، ورفع أسعار القروض بالنقد الأجنبي. كما فرضت بعض التدابير الاقتصادية الجزئية مثل رفع معايير استخدام العملات الأجنبية وأقساط التأمين على الودائع بالعملة الأجنبية. لذلك، يعتمد نجاح سياسات إزالة الدولرة في الغالب على الثقة العامة في العملة المحلية وفعالية الإطار المؤسساتي.
على سبيل المثال، انخرطت السلطات النقدية والمالية في تشيلي في عملية طويلة الأجل لخفض التضخّم، ممّا أدّى إلى انخفاض التضخّم من 90% في عام 1977 إلى أقل من 10% في عام 1981. وقد أعقب ذلك في تسعينات القرن العشرين اعتماد برنامج يهدف إلى خفض التضخم إلى مستويات دولية. وكانت إحدى أنجح تجارب إلغاء الدولرة، إذ انخفضت القروض بالعملة الأجنبية من 45% في أوائل الثمانينات إلى أقل من 10% في أواخر التسعينات. وعلى نحو مماثل لما حدث في تشيلي وإسرائيل، شرعت بولندا في تنفيذ برنامج طويل الأجل لخفض معدّلات التضخّم، فضلاً عن سياسة نقدية تقييدية، إلى جانب تحرير القطاع المالي وتعويم سعر الصرف. وقد سمح هذا الإطار الاقتصادي الكلي بانخفاض حصة الودائع بالعملات الأجنبية من 80% في عام 1990 إلى 15% في عام 2000.
في البيرو، منذ بداية العقد الأول من القرن الـ21، بذلت السلطات النقدية والمالية جهوداً مشتركة للحَدّ من الدولرة من خلال فرض احتياطيات من العملة المحلية وتنفيذ الإعفاءات الضريبية للشركات التي تقترض بالعملة المحلية. وفي عام 2002، قدّم البنك المركزي برنامجاً لخفض التضخّم بهدف 2% وهامش تسامح يتراوح بين 1% و3%.
عام 2014، بدأ بنك إندونيسيا في تنظيم الديون بالعملات الأجنبية لقطاع الشركات. وعلى وجه التحديد، طلب بنك إندونيسيا:
– نسبة تغطية دنيا لإجمالي القيمة المغطاة إلى صافي الالتزامات الأجنبية قصيرة الأجل تساوي 20% في عام 2015 ثم 25% في عام 2016.
– نسبة سيولة دنيا، تساوي الأصول قصيرة الأجل على الالتزامات قصيرة الأجل، بالعملة الأجنبية بنسبة 50% في عام 2015 و70% في عام 2016.
– تصنيف ائتماني أدنى للمؤسسات غير المالية يساوي BB أو ما يعادله، صادر عن وكالة تصنيف معتمدة مثل Moody›s (Ba3) أو S&P (BB) أو Fitch (BB-).
إنّ المكسيك حالة ناجحة في إلغاء الدولرة في الدين العام، علماً أنّها لم تعانِ نسبياً من مستوى مرتفع من دولرة الودائع أو القروض. ففي عام 1982، وبعد التخلّف عن سداد الديون السيادية، فرضت المكسيك تحويلاً قسرياً للودائع بالعملة الأجنبية إلى ودائع بالعملة المحلية، ممّا أدّى إلى هروب رأس المال وإلغاء الوساطة المالية. وسادت ضوابط رأس المال وكان الوصول إلى الودائع بالعملة الأجنبية محدوداً. وقد تغيّر تكوين الدين في المكسيك بشكل كبير بعد منتصف التسعينات. فقد شكّل الدين الخارجي المقوّم بالدولار أكثر من 80% من إجمالي المديونية في عام 1995 وانخفض إلى أقل من 50% من إجمالي الدين في عام 2002. ومُوِّلت احتياجات الميزانية بالكامل من الأسواق المحلية. وقد حدث هذا في وقت من التقشف المالي والسياسة النقدية الحكيمة. وكان إصدار الدَين الخارجي مقيّداً بسقف سنوي وافق عليه الكونغرس. بالإضافة إلى ذلك، طوّرت المكسيك أدوات مالية بديلة وأدخلت سندات مرتبطة بالتضخّم.
في قراءة علمية وعملية لتجارب البلدان السابقة، يظهر أنّ العديد من السياسات الإلزامية والطوعية للتخلّي عن الدولرة حصلت على نتائج متناقضة. وكثيراً ما كانت هذه المحاولات تنطوي على فرض إجراءات إدارية من دون استعادة الثقة في العملة المحلية بالكامل أو لإعادة الاستقرار إلى العوامل الأساسية التي أدّت إلى التحوّل إلى الدولرة في المقام الأول.
وعليه، يتوجّب أن تبدأ عملية إزالة الدولرة ببرنامج لتثبيت الاستقرار الاقتصادي الكلي المبني على سياسات اقتصادية، مالية، ونقدية تعمل على خفض التضخّم والحَدّ من التوقعات التضخمية، ممّا يساعد في تحسين سعر الصرف الحقيقي و/أو الإسمي. وتعتمد السياسات على إجراءات سوقية (market-based) وإدارية (administrative-based) للتشجيع على استعمال العملة المحلية. ومن هذه الإجراءات تلك المتعلقة بنظام سعر الصرف، أو تعزيز المالية العامة وإدارة الدين العام، أو تلك التي تُعنى بأنظمة الدفع (Payment systems)، التنظيم الاحترازي للقطاع المصرفي، وصولاً إلى خيار العملة المعتمدة في التداول من قِبل السلطات الحكومية. وعلى هذه الإجراءات أن تعمل على كبح جماح الطلب الكلي، ممّا يؤدّي إلى انخفاض التضخّم، وبالتالي انخفاض الحاجة إلى التحوّط ضدّ التضخّم من خلال الاحتفاظ بالعملة الأجنبية بشكل كبير، ممّا يؤدّي إلى توسع الطلب على الأصول المقوّمة بالعملة المحلية.
وعلى سياسات إلغاء الدولرة أن تُعَدّ بشكل يتوافق مع نظام سعر الصرف المعتمد. ففي ظل نظام سعر الصرف المرن، تسعى المصارف المركزية إلى استعادة استقلالية سياساتها النقدية، وتتدخّل في السوق عن طريق السيطرة على كمية النقد لدعم سعر الصرف وتعزيز خطط إلغاء الدولرة (البرازيل والمجر). وفي ظل أنظمة سعر الصرف الأقل مرونة، فإنّ نجاح المصارف المركزية بتأدية دورها يتعلق بثقة المجتمع بإمكانيّتها على الالتزام بمبدأ الربط (peg) بسعر الصرف.
– بالنظر إلى دور السلطات النقدية والمالية، فإنّ استراتيجيات إلغاء الدولرة تتمحوَر بمعظم الأحيان حول التدابير التالية: من منظور السياسة النقدية، قد تزيد المصارف المركزية أسعار الفائدة على العملة المحلية، ممّا يجعل الودائع بالعملة المحلية أكثر جاذبية من الودائع بالعملة الأجنبية.
– من منظور سياسة سعر الصرف، قد يؤدّي استقرار سعر الصرف من خلال تبنّي تدابير استهداف التضخّم، إلى تجنّب تآكل قيمة العملة المحلية والحَدّ من الطلب على العملة الأجنبية.
– من منظور التنظيم الاحترازي المصرفي، قد تطلب البنوك المركزية متطلبات احتياطي أعلى من البنوك على الودائع بالعملة الأجنبية، ممّا قد يجعل هذه الودائع أقل جاذبية ويُقلّل من توافر القروض بالعملة الأجنبية. كما يمكنها أن تطلب من البنوك متطلبات رأسمالية أعلى على الودائع أو القروض بالعملة الأجنبية، أو حتى تحديد أوزان مخاطر أعلى للقروض بالعملة الأجنبية، ممّا يجعلها أقل ربحية. وبدلاً من ذلك، يُمكن للبنوك المركزية الحَدّ من الإقراض بالعملات الأجنبية من خلال طلب نِسَب ضمانات أعلى للقروض بالعملات الأجنبية (Loan-to-value (LTV) ratios). كما يمكن للمصارف المركزية التأثير على العرض والطلب على العملات الأجنبية من خلال استخدام أدوات إدارة السيولة، مثل مقايضات العملات (currency swaps) للسيطرة على السيولة بالعملة الأجنبية المتاحة.
– ومن منظور الشمول المالي، تعمل الحملات التعليمية والتثقيف المالي على تحسين الوعي العام بالمخاطر المرتبطة بالدولرة.
بناءً على ذلك، فإنّ السلطات النقدية والمالية مسؤولة عن اختيار الأدوات الأكثر فعالية. وهي تُقيِّم مستوى تطوّر الأسواق المالية، ومستوى الثقة في العملة المحلية، وتُقرّر مدى الفعالية المتوقعة لتدابير السياسة النقدية، وما إذا كانت في حاجة إلى تنفيذ تدابير إدارية إضافية للحَدّ من الدولرة. لكنّ نجاح أي خطة لإزالة الدولرة تتطلب التنسيق الوثيق مع الحكومات وسياساتها المتبعة، التي تساهم بتعزيز ثقة المواطن بعملته المحلية.