هل بدأ العد التنازلي لانهيار العولمة؟
(البيان)-07/04/2025
*سام فليمنج – دلفين شتراوس
في عام 1987، نشر دونالد ترامب إعلاناً على صفحة كاملة في صحيفة نيويورك تايمز وصحف أخرى، ينتقد فيه نظام العولمة الذي رأى أنه يضر بالمصالح الأمريكية بشكل ممنهج. وفي رسالة مفتوحة ما زالت ترسم ملامح فكره السياسي والاقتصادي حتى اليوم، عبر رجل الأعمال البالغ من العمر آنذاك 41 عاماً عن استيائه من تداعيات قوة الدولار على القطاع الصناعي الأمريكي، ومن الفائض التجاري الياباني المتنامي، فضلاً عن الأعباء المالية للمساعدات العسكرية المقدمة للحلفاء. وكتب في رسالته: «ضعوا حداً لعجزنا المالي الضخم.. خفضوا ضرائبنا، وأطلقوا العنان لاقتصادنا لكي ينمو».
وبعد نحو أربعة عقود، وبعد فوزه في انتخابات نوفمبر العام المنصرم، بات ترامب يرى نفسه أخيراً في موقع يمكنه من تطبيق رؤيته الاقتصادية ومحاولة إحداث تحول جذري في المسار الاقتصادي للولايات المتحدة. ويجسد خطاب «يوم التحرير» لترامب جوهر رؤيته للنظام التجاري العالمي، وذلك على خلفية مشاهد غريبة، من البطاقات الزرقاء الضخمة التي تفصل الرسوم الجمركية الجديدة إلى المعادلات الملفقة المرصعة بحروف يونانية لإضفاء شرعية مزعومة على الأرقام المعلنة.
ويسعى ترامب من خلال هذه الخطوة إلى انقلاب اقتصادي حقيقي، فهو يريد تقويض مسار عالمي استمر لعقود طويلة لبناء منظومة اقتصادية متكاملة عابرة للحدود. وفي الوقت الذي يرى فيه العالم أن نظام التجارة الدولي جعل من أمريكا أقوى وأغنى دولة في التاريخ، فإن ترامب يصر على تصوير بلاده في دور الضحية.
لقد ادعى الرئيس الأمريكي بالفعل خلال خطابه الأربعاء في حديقة الورود أن الولايات المتحدة «نهبت وسلبت واغتصبت» على مدى خمسة عقود على يد الأصدقاء والأعداء على حد سواء، مضيفاً بلهجة متحدية: «الآن حان دورنا للازدهار». وفيما راهن بعض المستثمرين على أن تهديدات ترامب بالرسوم الجمركية مجرد مناورة، فقد شهدت الأسواق منذ يوم الخميس عمليات بيع محمومة، تغذيها المخاوف من أن السياسات الاقتصادية الأمريكية المتهورة قد تدفع الاقتصاد نحو الركود وتقوض النمو العالمي.
إن الهجوم الجمركي الذي أطلقه ترامب إذا نفذ بالكامل – سيعيد النظام التجاري العالمي قرناً كاملاً إلى الوراء، وسيرفع متوسط الرسوم الفعلية على الواردات الأمريكية إلى أعلى مستوياتها منذ عام 1909، وفق تقديرات مؤسسة «ذا بدجت لاب» البحثية.
وتبددت حالة الاسترخاء واللامبالاة إزاء خطط ترامب، ليحل محلها سيل من الأسئلة الملحة: ما طبيعة الاقتصاد العالمي الذي يطمح إليه ترامب فعلياً؟ وهل هناك خطة حقيقية وراء التصريحات الصاخبة وخطاب الضحية؟ وهل سيتراجع ترامب؟ وما حجم العواقب الاقتصادية والسياسية العالمية لهذه المغامرة؟
وغالباً ما ينصب غضب ترامب على العولمة المتسارعة التي بدأت في أواخر الثمانينيات، وتفاقمت بانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، إذ يبدو أحياناً وكأنه يرغب في إعادة الولايات المتحدة إلى فترة الهيمنة الاقتصادية التي تمتعت بها خلال طفولته في الخمسينيات، قبل أن تبدأ ألمانيا واليابان ثم لاحقاً الصين بتحدي مكانة أمريكا بوصفها مصنع العالم.
ويرى غاري ريتشاردسون، أستاذ التاريخ الاقتصادي بجامعة كاليفورنيا، أن السياسات التي طرحها ترامب الأربعاء تحمل أوجه تشابه واضحة مع تلك التي اتبعتها أمريكا في القرن التاسع عشر، حينما كانت الرسوم الجمركية – وليس ضرائب الدخل – تشكل المصدر الرئيسي لإيرادات الحكومة. غير أن الخطر الماثل الآن أمام الاقتصاد العالمي هو أن ترامب يعمل على إعادتنا إلى ثلاثينيات القرن الماضي، حين أشعلت تعريفات «سموت-هولي» سيئة السمعة في الولايات المتحدة سلسلة من ردود الفعل الانتقامية الدولية، والتي غالباً ما يوجه إليها اللوم في تعميق أزمة الكساد الكبير.
وقد تكون المخاطر الحالية أشد من نواحٍ عدة، فالتجارة ليست أكثر أهمية فحسب مما كانت عليه في الثلاثينيات بل إن الاقتصاد العالمي اليوم مبني على سلاسل توريد متشابكة تشهد تدفق البضائع والمكونات عبر حدود متعددة – ويدعم ذلك كله إطار من التعاون الدولي الذي يتنكر له ترامب.
وفي معركته ضد العولمة، يدفع ترامب باباً كان مفتوحاً جزئياً بالفعل لاشتعال الأوضاع، فقد أدى فقدان الوظائف الصناعية لصالح المكسيك والصين والدول الأقل تطوراً، إضافة إلى الأزمة المالية العالمية، إلى تقويض ثقة الناس في المنظومة الاقتصادية التقليدية لفترة ما بعد الحرب. وغيّر صعود الصين الآراء السياسية كذلك، فإذا كانت بكين منافساً جيوسياسياً محتملاً لواشنطن، فربما كان منطقياً من الناحية الاستراتيجية أن تسعى الولايات المتحدة لكبح النمو الاقتصادي الصيني المتسارع – وهي سياسة تبناها بحماس الرئيس السابق جو بايدن خلال سنواته الأربع في البيت الأبيض.
وقد جاء ترامب ليمزج هذه المشاعر السلبية تجاه التجارة مع منهجه النفسي الخاص، مع أن عصر العولمة تميز بمفهوم «الكل رابح» – حيث يمكن لكل الأطراف الاستفادة من التسويات. أما ترامب، المتأثر بخبرته كمطور عقاري يتنافس على قطع الأراضي، فيؤمن بأن المفاوضات لا يمكن أن تفرز سوى فائز واحد، ويفخر بعدم تراجعه أبداً أو إظهاره لأي علامة ضعف.
وإذا كانت هناك نظرية موحدة وراء التعريفات الجمركية لترامب، فيمكن العثور على بعض ملامحها في ورقة بحثية واسعة الانتشار من نوفمبر الماضي لستيفن ميران، رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين لترامب حالياً، فهي توضح كيفية استخدام التعريفات لتعزيز القطاع الصناعي الأمريكي.
وظل ترامب نفسه غامضاً بشأن طبيعة الوظائف التي يعتقد فعلياً أنه يمكن إعادتها للبلاد، رغم تصريحاته المتفرقة حول أهمية صناعة الفولاذ أو السيارات. وكما أشار معظم الاقتصاديين خلال الأيام الأخيرة فهناك، مشكلات لا حصر لها في حجج فريق ترامب. كما أن الأهداف المعلنة للسياسة الجمركية الجديدة تبدو متضاربة ومتناقضة، إذ تقدم التعريفات تارة كأداة لإعادة تشكيل الاقتصاد واستعادة قطاع التصنيع، وتارة أخرى كوسيلة لاكتساب نفوذ دبلوماسي.
ومن الواضح كذلك أن استراتيجية البيت الأبيض تقلل من شأن الدور المحوري الذي تؤديه المنتجات الأجنبية كمدخلات أساسية في الصناعة الأمريكية، غير أن قرار ترامب باستثناء المكسيك وكندا من التعريفة الأساسية الشاملة البالغة 10% قد يشي بإدراك متأخر لهذه الحقيقة. كما أغفل خطاب ترامب بشكل كامل قطاع الخدمات الذي يمثل نحو 70% من الاقتصاد الأمريكي، فضلاً عن أن العديد من التعريفات الجمركية المقترحة تتعارض صراحة مع أولويات الأمن القومي الأمريكي. وتكمن المخاوف التي تقض مضاجع المستثمرين العالميين في احتمالية اندلاع سباق محموم لإقامة الحواجز التجارية على غرار ثلاثينيات القرن الماضي، الأمر الذي قد يؤدي إلى زعزعة استقرار الاقتصاد العالمي بأكمله وتقويض أسس النظام الدولي القائم على التعاون.
وطرح ترامب يوم الأربعاء رؤية مغايرة تماماً لتلك الحقبة التاريخية، مقدماً نظرية غير مسبوقة وغير متداولة بين المؤرخين الاقتصاديين، مفادها أن الكساد الكبير ما كان ليحدث أبداً لو أن الولايات المتحدة احتفظت بنظام اقتصادي قائم على التعريفات الجمركية بدلاً من تحولها، قبل عقود من ذلك، إلى الاعتماد على ضريبة الدخل كمصدر رئيسي للإيرادات الحكومية.
وقد أعلنت الصين من جانبها عن فرض رسوم جمركية بنسبة 34% على السلع الأمريكية، فيما تمثل رد الفعل المبدئي للاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة في رفض الانتقام الفوري، أملاً في إقناع ترامب بتخفيف هذه الإجراءات.
إن هذه الإدارة، وخلال فترة وجيزة، بذلت جهوداً استثنائية لاستفزاز شركائها التجاريين الرئيسيين – بدءاً من تهديدات ترامب بضم كندا وغرينلاند، وصولاً إلى خطاب نائب الرئيس جي دي فانس في مؤتمر ميونيخ للأمن، حيث اتهم القادة الأوروبيين بالتراجع عن مبادئ الديمقراطية وحرية التعبير.
وفي الوقت الذي يبدو فيه ترامب أقل اكتراثاً للتقلبات السلبية في الأسواق المالية مقارنة بفترة ولايته الأولى، سيواجه البيت الأبيض صعوبة بالغة في تجاهل تمرد المستثمرين على سياساته الجديدة، إذ بدأت تحذيرات الركود تتزايد خلال الأيام الماضية مع استيعاب الاقتصاديين للقفزة المحتملة في معدل التعريفة الجمركية الأمريكية إلى نحو 22%، بعدما كانت 2.5% فقط العام الماضي.
وتظهر تجارب التاريخ أن التعريفات الجمركية، بمجرد فرضها، تصبح عصية على الإلغاء من الناحية السياسية، فيما يحذر خبراء الاقتصاد من أن الصراعات التجارية كتلك التي شهدتها ثلاثينيات القرن الماضي يمكن أن تكون بالغة الخطورة، لا على الاقتصادات فحسب، بل في إمكانية تسببها بانهيار أوسع في التعاون الذي يمتد ليشمل مساحات شاسعة من السياسة الدولية.
ويلفت غاري ريتشاردسون، مؤرخ فترة الكساد الكبير، إلى أن النزاعات التجارية الحادة يمكن أن تتسرب إلى السياسة العالمية الأوسع، مؤججة توترات قد تفضي حتى إلى صراعات مسلحة، مضيفاً: «قد نشهد تراجعاً في التعاون الدولي على مختلف الصعد».