قمّة للعملات الرقمية الأولى من نوعها في البيت الأبيض:
دونالد ترامب المحرّك الجديد لعملة البتكوين والضامن لها
طموحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم تنته فصولاً بعد، وفترة حكمه الثانية من أربع سنوات ستكون حُبلى بالمفاجآت.
فبعد أن إستعرضنا في العددين السابقين من هذه المجلة، مشروعه التجاري بين بلاده وعدد من دول العالم (الصين – كندا – المكسيك – الإتحاد الأوروبي) وفرض رسوم جمركية عليها، كذلك تحدّيه للمناخ وإتفاقيات البيئة العالمية ونيّته حفر آبار نفط وغاز، وجعل بلاده المنتج الأقوى والأكبر للطاقة الملوثة في العالم، ها هو اليوم يعرض نفسه رجل المرحلة الذي يتماشى مع متطلّبات العصر التكنولوجية، طامحاً أن يجعل من الولايات المتحدة عاصمة للعملة المشفّرة (البتكوين)، والتي باتت تتراقص على أنغام خطاباته خلال حملته الإنتخابية، وتصعد بعشرات الآلاف من الدولارات دفعة واحدة ليُصبح ترامب مؤشر التعاملات لهذه العملة، بعدما كان من أشدّ أعدائها خلال ولايته الأولى.
فدعمُ الرئيس ترامب للبتكوين، جاء اليوم بعد سنوات من القيود، حيث تُعتبر خطوته الأخيرة مع إنشاء إحتياطي إستراتيجي من البتكوين نقطة تحوّل في سياسات الرئيس نفسه تجاه العملات الرقمية، حيث إنتقل من كونه ناقداً شديداً لها إلى أحد أبرز الداعمين لها في ولايته الحالية، لدرجة أنه أطلق أيضاً عملته الإلكترونية الخاصة «ترامب كوين» في مطلع العام الجديد (2025)، كما أعلن عن دعمه لمنصة تبادل «وورلد ليبرتي فاينانشل».
ولتتويج خطواته وتطلُّعاته، إستضاف الرئيس الأميركي في البيت الأبيض في آذار/ مارس 2025 قمّة، هي الأولى من نوعها، خاصة للعملات الرقمية، ساعياً لإنشاء إحتياطي إستراتيجي يكفل من جعل بلاده عاصمة البتكوين، كما وعد في حملته الإنتخابية، معلناً عن خطط عدة لتعزيز بيئة تنظيمية مناسبة للعملات المشفّرة في بلاده. فجمعت القمّة عدداً من القادة في صناعة العملات المشفّرة بما في ذلك زعيم العملات المشفّرة ديفيد ساكس، إلى جانب العديد من رؤساء الوكالات الفيدرالية.
الرئيس ترامب لفت خلال هذه القمّة إلى أخطاء إرتكبتها الإدارة السابقة في عهد جو بايدن، وطالب المختصين والخبراء بإلغاء ما أسماه النقطة (2.0) التي أنشأتها إدارة بايدن بحسب قول ترامب.
وهذه النقطة تمنع البنوك الأميركية من تقديم خدمات حفظ الأصول المشفّرة والخدمات المالية لشركات الأصول الرقمية، وبحسب مخرجات القمّة، ستكون الخطوة نحو إنهاء هذه العملية مدعومة من قبل مكتب مراقب العملة.
وبعد القمّة، أصدر مكتب مراقب العملة بياناً يوضح فيه: أن البنوك في الولايات المتحدة يُمكنها من الآن فصاعداً حفظ مجموعة من الأصول المشفّرة، بما في ذلك العملات المستقرّة.
الرئيس الأميركي ذكر خلال القمّة الرقمية، أن حكومة بلاده لن تبيع أياً من حيازتها من البيتكوين تحت إدارته، مشيراً إلى أن البتكوين الذي تحتفظ به الحكومة الأميركية سيتم تحويله إلى إحتياطي إستراتيجي وفق أمره التنفيذي الذي أصدره عشية إنعقاد القمّة في البيت الأبيض في 7 آذار/ مارس 2025.
إن ما يقوم به الرئيس ترامب اليوم من تشريعات تُحدّد مسار عملة البتكوين التي أصبحت غالية على قلبه، لها بُعد سياسي إضافة إلى البُعد التقني والإقتصادي، وإنطلاقاً من هنا، ومن قرارته بإلغاء تشريعات في الإدارة السابقة، فهو يُعرّض مستقبل هذه العملة الوهمية لمزيد من المخاطر في المستقبل مجرّد تبديل الإدارات والقرارات.
فعملةُ البتكوين بالأصل هي عملة مهتزّة صعوداً وهبوطاً وبأرقام خيالية، ولا تخضع تعاملاتها للبنك المركزي أو لتشريعات مصرفية تحفظ لها فارق تقلُّباتها عند الهبوط، فالإحتياطي الذي شكّله الرئيس ترامب (ويشمل حوالي 200 ألف بيتكوين أي ما يعادل حوالي 17 مليار دولار بالأسعار الحالية)، لقد تم الإستحواذ عليه من خلال مصادرات قانونية سابقة.
وقال زعيم العملات المشفّرة ديفيد ساكس: إن «هذا الإحتياطي العام من البتكوين يُشبه إلى حد كبير إحتياطيات الذهب الأميركي، إنه خطوة تاريخية لتعزيز الإستقرار المالي للولايات المتحدة وحماية الأصول الرقمية».
لكن، هل هذه الإجراءات تكفي لضمان تقلّبات هذا النوع من العملات، طالما أن البنك المركزي لا يضمنها؟ فهي تحتاج إلى تنظيم مالي وتنظيم مستقبل التعامل بها وطريقة الدفع، كما تتطلّب المرحلة المقبلة تشريعات وقرارات تحمي العملة الطبيعية وهي الدولار وعدم تأثر القطاعات الإقتصادية والتجارية بأفكار ترامب وتطلُّعاته كرجل أعمال يبحث عن إستغلال الفرص وتحقيق الربحية.
وبالإضافة إلى إنشاء الإحتياطي الإستراتيجي من البتكوين، عيّن ترامب بول أتكينز، أحد أبرز مؤيّدي العملات الرقمية، رئيساً للهيئة التنظيمية للأسواق المالية.
الرئيس الأميركي، يتصرّف بإنفراد في ما يخص عملة البتكوين، متجاهلاً المنصّات العالمية الأخرى من العملات الرقمية، والتي تُحدّد حجم التعاملات من هذه العملة. وهذا الجانب أيضاً قد يكون له نقاط سلبية في مسيرة عمله والإحتياطي الإستراتيجي الذي أنشأه إلى جانب تكليفه وزارتي الخزانة والتجارة لإستكشاف طرق جديدة لتجميع المزيد من البتكوين للإحتياطي الإستراتيجي.
من أهم خصائص عملة البتكوين والتي ربما يجهلها الرئيس ترامب، أن مرونة هذه العملة لا يحتاج أو لا يعتمد على الإعتراف الرسمي أو تشكيل إحتياطي أو جعل أميركا عاصمة لهذه العملة.
إن حاملي عملة البتكوين على المدى الطويل، يفهمون أن القيمة الحقيقية للبتكوين ليست مرتبطة بالتقلُّبات القصيرة الأجل، لكن بدورها كأداة تحوّط نهائية من عدم اليقين النقدي، ولا شك في أن إعلان الرئيس الأميركي عن تشكيل إحتياطي إستراتيجي من البتكوين سيجلب المزيد من الناس إلى هذا المجال. لكن مَن يضمن أيّ تقلّبات؟ وأين هي تلك التشريعات التي تحمي حاملي هذه العملة؟
فالمستثمرون الكبار الذين يبحت عنهم الرئيس ترامب، لجلبهم إلى حلبة المنازعة والبيع والشراء، يريدون رؤية إلتزام كبير تجاه البتكوين كجزء من الإستراتيجية الوطنية الأميركية، وليس مجرّد صفقة. فالقيمة السوقية للعملات المشفّرة في العالم اليوم تفوق 3 تريليونات دولار، وهي آخذة بالإرتفاع.
الرئيس الأميركي حدّد خمس عملات يتشكّل منها الإحتياطي الإستراتيجي، وركّز على البتكوين في الدرجة الأولى، ثم الإيثريوم، بالإضافة إلى ثلاث عملات مشفّرة أصغر هي: XRP وSolona وCardano. علماً أن الخطوة التي أقدم عليها الرئيس الأميركي ستجعل منه المسؤول الأول عن حجم التقلُّبات في مسار هذه العملات صعوداً كان أم هبوطاً.
وتجدر الإشارة إلى أن تأخر الرئيس ترامب عن الإعلان عن الإحتياطي الإستراتيجي تسبّب بخسائر حادّة لهذه العملات لعدم رؤية الإحتياطي في وقته!. وللتذكير، إرتفع سعر البتكوين من نحو 50 ألف دولار إلى نحو 75 ألفاً مجرّد تفوّق الرئيس ترامب على خصمه الرئيس بايدن في المناظرة التلفزيونية، ومن ثم قفزت إلى نحو 110 آلاف دولار مجرّد فوزه بالرئاسة، قبل أن تعود وتهبط إلى التسعينيات، حيث أعطى الرئيس الأميركي إنطباعاً بأن أكبر قوة إقتصادية في العالم ستكون الضامن للعملات المشفّرة عملة المستقبل.
إلاّ أن فكرة الإحتياطي من العملات المشفّرة التي أصبحت واقعاً في الولايات المتحدة، يُمكن أن تجعل هذا التشفير أكثر شعبية، خصوصاً وأن العديد من الشخصيات السياسية في أوروبا، ولا سيما في جمهورية التشيك، وبولندا، وألمانيا، ترغب في السير على خطى دونالد ترامب الرامية إلى تشكيل دعامة للإقتصاد الأميركي بفضل هذه العملات. وتبقى مسألة التحكُّم في إحتياطات البتكوين في الولايات المتحدة التي بات العالم الإقتصادي إعتباراً من تاريخ 7 آذار/ مارس 2025 ينظر إليها على أنها أول دولة مشفّرة في العالم.
لا شك في أن خطوة الرئيس ترامب طموحة، لكن تحتاج لتنظيم عالي الدقة، ومستعد في كل لحظة لأي تقلُّب سلبي يتسبّب للإحتياطي بخسائر فادحة نتيجة لحجم التقلُّب الكبير الذي يُعد واحداً من خصائص هذه العملة التي مضى على ظهورها أكثر من 17 عاماً، حيث تم إختراعها من قبل شخص مجهول يُعرف بإسم ساتوشي ناكاموتو، وقد بدأ إستخدام عملة البتكوين كعملة رقمية في العام 2009. وفي العام 2021 إعتمدته السلفادور كعملة قانونية.
وفي العام 2009 كانت قيمة البتكوين الواحدة، سنتيمات عدة من الدولار، حيث إنطلقت البتكوين من البدايات المتواضعة إلى النجومية، ومع ذلك لا تزال بنوك مركزية عدة في العالم لا تريد أن تتبنّى هذا النوع من العملات، وتأمين تغطية لها على غرار العملات والنقود العادية.
فهل ينجح إحتياطي ترامب من البتكوين بتوجيه رسالة قوية إلى صناعة العملات المشفّرة، وعلى نطاق أوسع للأسواق المالية بأكملها وإضفاء مصداقية قويّة على هذا النوع من العملات المشفّرة التي يتم إنتقادها بإنتظام بسبب طبيعتها التي تُسيطر عليها المضاربة، وإفتقارها لسعر فائدة، وخصوصاً بالنسبة إلى التبادلات والمعاملات.