تعدّد أشكال المخاطر الجيوسياسية والنزاعات العسكرية
وعدم الإستقرار السياسي والعقوبات الإقتصادية
الصمود المصرفي والإقتصادي في ظل المتغيّرات الجيوسياسية
تتسارع التغيُّرات الجيوسياسية في العالم بصورة غير مسبوقة، حيث تشهد الساحة الدولية إضطرابات متعددة تشمل النزاعات المسلحة والتوترات الجيوسياسية والعقوبات الإقتصادية والحروب التجارية وتغيُّرات موازين القوى الإقليمية. وفي ظل هذه التقلُّبات، تبرز أهمية الصمود الإقتصادي والمصرفي كضرورة إستراتيجية تمكّن الدول من الحفاظ على إستقرارها المالي وضمان إستمرارية النشاط الإقتصادي، رغم التحدّيات الخارجية. علماً أن المصارف، بإعتبارها العصب الرئيسي للأنظمة المالية، تقع في صلب هذه المعادلة، إذ يُعهد إليها مسؤولية إدارة رأس المال وتوفير التمويل وتأمين المدفوعات والحفاظ على ثقة المستثمرين والعملاء، وبالتالي، فإن قدرتها على الصمود أمام الأزمات الجيوسياسية تمثل ركيزة حاسمة للإستقرار الإقتصادي الشامل.
المخاطر الجيوسياسية وتأثيرها على القطاعات المصرفية والمالية
تتعدّد أشكال المخاطر الجيوسياسية، وتشمل على سبيل المثال النزاعات العسكرية، وعدم الإستقرار السياسي، والعقوبات الإقتصادية، والقرارات أحادية الجانب من القوى الكبرى، وإضطرابات سلاسل التوريد العالمية.
تؤدي هذه المخاطر إلى تقلُّبات حادّة في الأسواق المالية وإنخفاض ثقة المستثمرين وتراجع في مستويات السيولة والإئتمان. كما تؤثر بشكل مباشر على بيئة الإمتثال المصرفي، حيث تصبح المصارف أكثر عرضة للمخاطر التنظيمية والعقوبات الثانوية، ما يُضعف قدرتها على إقامة علاقات مستقرّة مع المصارف المراسلة ويُعقّد تعاملاتها الخارجية.
وإلى جانب ذلك، تفرض التطورات الجيوسياسية ضغوطاً كبيرة على سياسات المصارف المركزية، خصوصاً في الإقتصادات النامية، التي تجد نفسها مضطرّة إلى تعديل أسعار الفائدة بشكل متكرّر، أو التدخل في أسواق العملات للحفاظ على إستقرار العملة الوطنية. كما تؤثر هذه الإجراءات بدورها على البيئة التشغيلية للمصارف التجارية وتزيد من كلفة التمويل وتحدّ من قدرة المصارف على منح القروض وتحفيز الإقتصاد.
كذلك، فإن تأثير هذه المخاطر يتجاوز القطاع المصرفي ليشمل منظومة الإقتصاد الكلي، إذ تؤدي إلى تقلُّص في تدفقات الإستثمار الأجنبي المباشر وتباطؤ النمو الإقتصادي وإرتفاع مستويات التضخُّم نتيجة إضطرابات التجارة العالمية وإرتفاع أسعار المواد الأولية. ويزداد الأمر تعقيداً عندما تؤثر هذه المخاطر على إستقرار العملات الوطنية أو الإحتياطات الأجنبية، ما قد يضع المصارف أمام تحدّيات إضافية في إدارة السيولة وتوفير العملة الصعبة.
ولا يُمكن إغفال الدور المتزايد للمخاطر السيبرانية المرتبطة بالهجمات الرقمية المدعومة من أطراف دولية في ظل النزاعات الجيوسياسية، والتي قد تستهدف الأنظمة المصرفية والبُنى التحتية المالية الحيوية، وهو ما يفرض على المصارف أن تضيف بُعد الأمن السيبراني كجزء لا يتجزأ من إدارة المخاطر الجيوسياسية، مع تعزيز نظم الحماية وتحديثها بشكل دائم.
وعليه، تصبح الحاجة إلى فهم عميق ومتكامل للمخاطر الجيوسياسية ضرورة ملحة لصنّاع القرار المصرفي، وهو ما يتطلّب أدوات تحليلية متقدّمة، ولجان متخصّصة تتابع التطورات العالمية وتترجمها إلى مؤشرات إستباقية داخل المؤسسات المالية. كذلك، فإن تأثير هذه المخاطر يتجاوز القطاع المصرفي ليشمل منظومة الإقتصاد الكلي، إذ تؤدي إلى تقلُّص في تدفقات الإستثمار الأجنبي المباشر وتباطؤ النمو الإقتصادي وإرتفاع مستويات التضخُّم نتيجة إضطرابات التجارة العالمية وإرتفاع أسعار المواد الأولية.
ويزداد الأمر تعقيداً عندما تؤثر هذه المخاطر على إستقرار العملات الوطنية أو الإحتياطات الأجنبية، ما قد يضع المصارف أمام تحدّيات إضافية في إدارة السيولة وتوفير العملة الصعبة.
إستراتيجيات الصمود وإدارة المخاطر لضمان صمودها
تعتمد المصارف على مجموعة من الإستراتيجيات، تشمل تنويع المخاطر الجغرافية والإستثمارية، وتعزيز إحتياطاتها من السيولة، وتبنّي أطراً حديثة لإدارة المخاطر تعتمد على التحليل الإستباقي والتنبؤ بالمخاطر المستقبلية. كما تركّز على بناء أنظمة إمتثال صارمة تتماشى مع المعايير الدولية وتحد من التعرُّض للعقوبات أو القرارات التنظيمية المفاجئة.
من جهة أخرى، تشكل الرقمنة والتحوُّل التكنولوجي أداة حيوية للصمود، حيث تسمح للمصارف بتطوير نماذج أعمال مرنة، وتقوية قنواتها الرقمية، وتوسيع قاعدة عملائها خارج الحدود التقليدية. ويُسهم إعتماد تقنيات الذكاء الإصطناعي وتحليل البيانات الضخمة في تحسين القدرة على التنبؤ بالتقلُّبات الإقتصادية وتحديد مكامن الخطر في مراحل مبكرة. ولا يقل أهمية عن ذلك الإستثمار في العنصر البشري، إذ إن تعزيز كفاءة الموظفين وتدريبهم على التعامل مع البيئات غير المستقرّة يمثل خط دفاع أساسياً. ومن الإستراتيجيات المحورية أيضاً تطوير خطط إستمرارية الأعمال، التي تضمن المحافظة على العمليات الحيوية للمصرف في حالات الطوارئ أو الكوارث الجيوسياسية، بما في ذلك توفير بدائل تشغيلية عبر فروع دولية أو نظم إحتياطية لتقنية المعلومات. كما تُسهم عمليات المحاكاة الدورية لإختبار الجاهزية التشغيلية في تقوية المنظومة المؤسسية للصمود.
إضافة إلى ذلك، يُمكن للمصارف تعزيز حضورها في الأسواق الإقليمية الأقل تأثراً بالأزمات الجيوسياسية، بهدف تنويع مصادر الدخل وتقليل الإعتماد على أسواق شديدة الحساسية. هذا النوع من التوسع الخارجي يجب أن يتم وفق دراسات جدوى دقيقة تراعي البيئة التنظيمية والسياسية والمالية في تلك الأسواق.
ولا بد أيضاً من بناء شبكات تواصل فعّالة مع السلطات الرقابية والجهات الدولية، بهدف تبادل المعلومات حول الأخطار المحتملة وتعزيز التعاون في مجال الإمتثال ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وهي مجالات أصبحت شديدة الترابط مع الإعتبارات الجيوسياسية المعاصرة.
في ضوء ما تقدم، فإن بناء ثقافة مؤسسية مرنة تتقبل التغيير، وتستوعب الديناميكيات الجديدة، وتُشجع على إتخاذ قرارات سريعة ومدروسة، يُعدّ من صلب إستراتيجيات الصمود، بما يضمن الحفاظ على ثقة المودعين والمستثمرين في كافة الأوقات. من جهة أخرى، تشكل الرقمنة والتحوُّل التكنولوجي أداة حيوية للصمود، حيث تسمح للمصارف بتطوير نماذج أعمال مرنة، وتقوية قنواتها الرقمية، وتوسيع قاعدة عملائها خارج الحدود التقليدية. ويُسهم إعتماد تقنيات الذكاء الإصطناعي وتحليل البيانات الضخمة في تحسين القدرة على التنبؤ بالتقلُّبات الإقتصادية وتحديد مكامن الخطر في مراحل مبكرة. ولا يقل أهمية عن ذلك الإستثمار في العنصر البشري، إذ إن تعزيز كفاءة الموظفين وتدريبهم على التعامل مع البيئات غير المستقرّة يمثل خط دفاع أساسياً.
خطط العمل المستقبلية لتمكين المصارف
تتطلّب البيئة الجيوسياسية المتغيّرة من المصارف ليس فقط التفاعل مع التحدّيات الآنية، بل أيضاً إعتماد نهج إستباقي يستند إلى رؤية إستراتيجية واضحة وخطط تنفيذية مرنة تُمكّنها من تعزيز مرونتها المؤسسية وتحقيق أهدافها المالية والتنموية. وتُمثل هذه الخطط ركيزة مركزية لضمان قدرة المصارف على مواصلة تقديم خدماتها بفعّالية، وحماية مصالح أصحاب المصلحة، والإضطلاع بدور فعّال في دعم الإستقرار الإقتصادي الوطني والإقليمي.
في ما يلي إضاءة على بعض آليات التمكين:
- حماية المحافظ الإستثمارية: تتمثل أبرز الأدوات في تنويع المحافظ الإستثمارية عبر أصول وأسواق متعدّدة، وتحديد نسب المخاطر المقبولة ضمن حدود محدّدة، وإستخدام أدوات التحوُّط المالي مثل المشتقات والعقود المستقبلية. كما يجب تعزيز الإستثمارات في الأصول الدفاعية مثل الذهب أو السندات السيادية منخفضة المخاطر، وضمان وجود تقييم دوري للمخاطر المرتبطة بكل أصل. ويُستحسن أيضاً بناء آليات إستجابة سريعة عند حدوث تغيُّرات مفاجئة في البيئة الإقتصادية، بما في ذلك خطط الطوارئ لإعادة توزيع الأصول أو تعديل السياسات الإستثمارية وفق المستجدات. ويُعدّ تطوير أدوات تقييم المخاطر الديناميكية عاملاً حاسماً في هذا المجال، إذ تُمكّن المؤسسات من قراءة متغيّرة للأسواق والتفاعل الفوري مع التحوُّلات.
- الإستجابة لتوقعات العملاء المتزايدة: يتطلّب الأمر تعزيز تجربة العملاء من خلال الرقمنة، وإطلاق منتجات مالية مخصصة تلبي الإحتياجات المتغيّرة، مثل حلول الدفع الإلكتروني والقروض المرنة ومنتجات الإستثمار المستدام. كما يتعيّن على المصارف توفير خدمات إستشارية دقيقة حيال التغيُّرات في الأسواق العالمية وتأثيراتها على قرارات العملاء. ويُشكل التواصل الفعّال والشفّاف مع العملاء عنصراً مهماً في الحفاظ على الثقة، لا سيما في فترات الأزمات، حيث تزداد الحاجة إلى الطمأنة والمعلومات الدقيقة. كما ينبغي تعزيز أدوات التحليل السلوكي للزبائن لتحديد أنماطهم الإستهلاكية وإبتكار حلول مالية ملائمة تعكس إحتياجاتهم المتجددة.
- الحفاظ على التنافسية: يتم ذلك من خلال الإبتكار المستمر، وتبنّي تقنيات الذكاء الإصطناعي في العمليات التشغيلية وتحليل البيانات، وتعزيز الكفاءة التشغيلية من خلال أتمتة الإجراءات وتقليل التكاليف. كما يُعد الإنفتاح على الشراكات مع شركات التكنولوجيا المالية عاملاً أساسياً في بناء نماذج أعمال أكثر مرونة وإستجابة للتحدّيات.
ولا بد من تعزيز الإستثمارات في البحث والتطوير داخل المصارف نفسها، لضمان إنتاج حلول مالية تتناسب مع الديناميكيات الجديدة في الأسواق العالمية. وفي هذا الإطار، يجب أن تنظر المصارف إلى الإبتكار كمصدر استراتيجي للميزة التنافسية، لا كعامل تقني فقط، مما يتطلّب تفعيل حوكمة الإبتكار وتخصيص ميزانيات مستدامة لهذا الغرض.
في الخلاصة
بناءً على ما تقدم، لم يعد الصمود المصرفي والإقتصادي خياراً نظرياً، بل أصبح ضرورة إستراتيجية محورية لتمكين المصارف من التعامل مع واقع دولي بالغ التعقيد، يتّسم بتشابك الأزمات وتسارع التغيُّرات الجيوسياسية والإقتصادية. فالمؤسسات المصرفية التي تتبنّى إستراتيجيات متعدّدة المستويات، وتفعّل آليات الحوكمة الرشيدة، وتستثمر بشكل ذكي في الرقمنة والإبتكار المالي، أثبتت قدرتها على الإستمرار بل وتحقيق النمو حتى في أكثر البيئات تقلباً.
إن مواجهة التحدّيات الجيوسياسية تفرض تحوُّلاً نوعياً في التفكير المصرفي، من عقلية رد الفعل إلى عقلية الإستباق والإستشراف، بحيث تُرى المخاطر لا كمجرّد تهديدات بل كنوافذ لإعادة التموقع وتحقيق فرص جديدة. فالمصرف القادر على الصمود هو ذاك الذي يمتلك بنية تنظيمية مرنة، وثقافة مؤسسية مرنة منفتحة على التحوُّل، وأدوات تشغيلية قابلة للتكيُّف مع التحوُّلات العنيفة في الأسواق الدولية.
وضمن هذا الإطار، يتطلّب الواقع الجديد إرساء وحدات تحليل إستراتيجية داخل المصارف، تُعنى برصد التطورات الجيوسياسية وربطها بالقرارات التمويلية والإستثمارية، بما يتيح إستجابة أسرع وأكثر دقة للتغيُّرات المفاجئة. كما ينبغي تعزيز البنية التحتية الرقمية والقدرات السيبرانية لضمان إستمرارية الأعمال في وجه التهديدات السيبرانية والإختراقات، والتي أصبحت جزءاً من حروب غير تقليدية تستهدف المؤسسات المالية.
بالإضافة الى ما سبق، يُعدُّ بناء شراكات استراتيجية مع منظمات دولية وهيئات رقابية موثوقة، خطوة محورية لتعزيز قدرة المصارف على التكيُّف، وتبادل المعرفة، وتحقيق التوازن بين الإمتثال الصارم والمرونة التشغيلية. ويُمثل دعم البحوث التطبيقية في مجالات إدارة المخاطر الجيوسياسية، وتحليل السيناريوهات والإمتثال المتقدّم رافعة معرفية لا غنى عنها في عالم يتغيّر بوتيرة غير مسبوقة. كما يجب أن تُولي المؤسسات إهتماماً بتصميم برامج تدريبية مستدامة تُعنى ببناء قدرات الكوادر المصرفية في فهم وتحليل المخاطر السياسية والإقتصادية العابرة للحدود، بما يُسهم في ترسيخ مناعة مؤسسية حقيقية، بدلاً من الإكتفاء بالإجراءات الشكلية.
في المحصّلة، إن قدرة القطاع المصرفي على الصمود والتقدم لا تُبنى فقط على الإجراءات الآنية، بل تتطلّب إرادة جماعية وقيادة إستراتيجية واعية، تتجاوز منطق ردود الفعل إلى تبنّي رؤية متكاملة تعيد صوغ العلاقة بين المال والسيادة والسياسة، وتؤسس لمرحلة جديدة من الإستقرار المالي والتأثير الإقليمي والدولي.
(المصدر: إدارة الأبحاث والدراسات – إتحاد المصارف العربية)