ثورة خضراء في الخليج: قراءة في تجارب الخليج المناخية
(النهار)-18/07/2025
جابر الشعيبي*
بين تصاعد آثار الاحترار المناخي وتغير أنماط الاقتصاد العالمي، بدأت دول الخليج تتحرك نحو نموذج تنموي جديد يوازن بين النمو وحماية البيئة. وتبرز المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في طليعة هذا التحوّل، من خلال مبادرات خضراء طموحة، تنسجم مع الأجندة المناخية العالمية، وتفتح آفاقًا اقتصادية متجددة.
في السعودية، شكّلت مبادرة “السعودية الخضراء”، التي أُطلقت في 2021، نقطة تحوّل في السياسات البيئية للمملكة. تسعى المبادرة، إلى جانب مبادرة “الشرق الأوسط الأخضر”، إلى تقليص الانبعاثات، وتوسيع الغطاء النباتي، وتحقيق الحياد الكربونيّ بحلول 2060. ورُصدت لها استثمارات تتجاوز الـ 187 مليار دولار، تشمل مشاريع ضخمة في الطاقة الشمسية والرياح وإعادة التدوير والتشجير. ومن أبرز هذه المشاريع محطة “سدير سولار” التي تولّد 1.5 جيغاواط من الكهرباء، وتكفي لتغذية أكثر من 185 ألف منزل، مع تقليص نحو 2,9 مليون طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون سنويًا. المشروع يوفر أكثر من ألف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة، ويعكس توجّه المملكة نحو بناء قاعدة اقتصادية متجدّدة.
وفي خطوة تعزّز هذا المسار، وقّعت المملكة استثمارات إضافية بقيمة 8,3 مليارات دولار لتطوير 15 جيغاواط من الطاقة النظيفة، بالشراكة مع كيانات كبرى مثل “أكوا باور” و”أرامكو للطاقة”، إذ إن كلفة الوصول إلى الحياد الكربوني خلال أربعة عقود تتطلّب التزامًا مؤسسيًا طويل الأمد، وقدرة على إدارة التكاليف الباهظة من دون المساس بأهداف التنمية الاقتصادية.
أمّا الإمارات فتبنّت نهج الاقتصاد الأخضر، وحدّدت هدفًا لتحقيق الحياد المناخي بحلول 2050، بدعم من استثمارات تتجاوز الـ 160 مليار دولار. وقد رسّخت استضافتها لمؤتمر الأطراف COP28، في نهاية 2023، مكانتها كمحور إقليمي للسياسات المناخية. خلال المؤتمر، أعلنت عن خفض مستهدف للانبعاثات بنسبة 40% مقارنة بخط الأساس، وتعهدت بتمويل مشاريع في الدول النامية بقيمة 30 مليار دولار. وبدأت بعض مخرجات المؤتمر تدخل حيّز التنفيذ، من خلال التوسّع في مشاريع الطاقة الشمسية مثل مجمع محمد بن راشد، ومبادرات تطوير الهيدروجين الأخضر، وتحديث لوائح البناء المستدام.
اعتمدت الإمارات حلولًا تكنولوجية رائدة، أبرزها المزارع العمودية التي تستخدم الزراعة المائية، وتقلّص استهلاك المياه بنسبة تقارب الـ 95%. وتعدّ مزرعة ECO1 في دبي أكبر منشأة من هذا النوع عالميًا، تنتج نحو 900 طن من الخضراوات الورقية سنويًا. هذه المشاريع تعزز أمن الغذاء، وتخلق فرص عمل نوعيّة في قطاع الزراعة الذكية وسلاسل الإمداد الحديثة. كذلك شهدت الإمارات توسّعًا كبيرًا في اعتماد المباني الخضراء. مجتمعات مثل “المدينة المستدامة” في الشارقة تُظهر وفورات في استهلاك الطاقة والمياه تصل إلى 50%. وتشير البيانات إلى أن المباني الخضراء توفّر ما بين 20 و30% من استهلاك الطاقة، وتحقّق عوائد تأجير أعلى بنسبة تصل إلى 10%. ورغم أن كلفة البناء المستدام قد تزيد من 5 إلى 12%، فإنها تُستردّ خلال أقلّ من عامين عبر تقليص التكاليف التشغيلية. ويُتوقع أن تنمو سوق البناء الأخضر في الإمارات من 7 مليارات دولار في 2024 إلى أكثر من 15 مليار دولار في 2032. ساهمت هذه التحولات في خلق آلاف الوظائف في الإمارات، خصوصًا في مجالات الطاقة المتجددة، والزراعة التقنية، والتصميم العمراني المستدام.
ما يميز التجربتين السعودية والإماراتية ليس حجم الاستثمارات أو تنوع المبادرات فحسب، بل وجود رؤية استراتيجية طويلة الأمد، تضع البيئة في قلب السياسات الاقتصادية. لقد انتقلت هذه الدول إلى مسارات تنفيذية مدروسة، تتكامل فيها التكنولوجيا مع التمويل، وتشكل خطوات فعلية على طريق بلوغ الأهداف المناخية المنشودة في أفق عامي 2050 و2060 على التوالي. ويبقى التحدي الدائم لكل دول العالم في تحقيق توازن فعليّ بين متطلبات التنمية الاقتصادية، وضرورات التكيّف مع الاحترار المناخي. هذا التوازن لا يكون بالمفاضلة بين النمو والبيئة، بل بإدماج المناخ في صميم التخطيط الاقتصادي. فعندما يُنظر إلى الطاقة المتجدّدة كأصل إنتاجيّ طويل الأجل وليس ككلفة، تُفتح أبواب الاستثمار والابتكار؛ وعندما تُعتمد معايير الاستدامة في التخطيط العمراني والزراعي، تتعزّز كفاءة الموارد، وتُخفَّض الفواتير، وتُبنى مجتمعات أكثر مرونة. وهكذا، يتحول المناخ من تهديد إلى فرصة، ومن عبء إلى رافعة تنموية، بشرط أن يترافق ذلك مع حوكمة مؤسسية وتمويل ذكي وقدرة على التنفيذ الفعّال.
*كاتب وباحث إماراتي