ثورة رقمية أم فجوة أعمق؟ مستقبل الدول النامية في عصر الذكاء
(النهار)-27/08/2025
جلال قناص*
الذكاء الاصطناعي لم يعد ترفًا تقنياً أو مجالاً للنقاش الأكاديمي، بل أصبح أداة تعيد صياغة موازين القوى في الاقتصاد العالمي. ومع كل موجة من الابتكار الرقمي، يتجدد السؤال الأهم: هل يمكن لهذه الثورة التكنولوجية أن تقلص الفجوة بين الدول المتقدمة ونظيراتها غير المتقدمة؟ أم أننا أمام مرحلة جديدة من تعميق التفاوت وترسيخ التبعية الاقتصادية والتكنولوجية؟
من الناحية النظرية، يحمل الذكاء الاصطناعي فرصاً غير مسبوقة للدول النامية. فالتقنيات الذكية قادرة على اختصار عقود من التنمية عبر تجاوز المراحل التقليدية في التصنيع والبنية التحتية. في الزراعة، يمكن لخوارزميات التنبؤ بالمناخ وإدارة الموارد المائية أن تزيد الإنتاجية وتقلل الهدر في المناطق التي تعاني شحّ المياه. في الصحة، أصبح بالإمكان تشخيص الأمراض المعقدة عن بُعد عبر أنظمة مدعومة بالذكاء الاصطناعي، ما يفتح نافذة أمل لمناطق محرومة من الأطباء المتخصصين. وفي التعليم، توفر المنصات الرقمية فرصًا لتقديم محتوى عالي الجودة لكافة الفئات الاجتماعية، كاسرة حاجز الفقر والجغرافيا الذي طالما قيد الوصول إلى المعرفة. حتى في القطاع المالي، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعزز الشمول المالي من خلال خدمات مصرفية رقمية تصل إلى الأفراد خارج النظام البنكي التقليدي، وهو ما يمثل دفعة حيوية لاقتصادات غير رسمية واسعة الانتشار في العديد من الدول النامية.
لكن هذه الوعود تصطدم بواقع شديد التعقيد. فالبنية التحتية الرقمية في غالبية الدول النامية لا تزال متخلفة عن ركب العصر. ملايين البشر محرومون من الإنترنت السريع، وإن توفر فهو بتكلفة مرتفعة تعجز عنها الطبقات الواسعة. غياب شبكات الجيل الخامس ومراكز البيانات المحلية يعني أن هذه الدول تبقى في موقع المستهلك للتكنولوجيا بدل أن تكون منتجة لها. يضاف إلى ذلك نقص حاد في رأس المال البشري المؤهل؛ إذ أن الأنظمة التعليمية في كثير من الدول النامية ما زالت تركز على التلقين بدلاً من بناء مهارات التفكير النقدي والابتكار الضرورية لعصر الذكاء الاصطناعي.
التحديات لا تقف عند الداخل، فالساحة العالمية تشهد تركيزاً غير مسبوق للقدرات التكنولوجية في أيدي شركات ودول محدودة، تسيطر على الخوارزميات والبيانات والبنى التحتية الرقمية الكبرى. هذا الاحتكار يفرض علاقة تبعية تكنولوجية تجعل الاقتصادات النامية عرضة للإملاءات، وتحرمها من القدرة على بناء منظومات مستقلة. الأخطر أن غياب الأطر التشريعية والتنظيمية في تلك الدول يعرضها لمخاطر إضافية، من انتهاك الخصوصية إلى التبعية المطلقة لمزودي التكنولوجيا العالميين.
ومع ذلك، ليست الصورة قاتمة بالكامل. تجارب مثل الإمارات والهند تثبت أن تبني سياسات استراتيجية يمكن أن يحول الذكاء الاصطناعي إلى أداة تنمية حقيقية. الإمارات أطلقت استراتيجية وطنية طموحة للذكاء الاصطناعي، استثمرت في التعليم التقني والبنية التحتية الرقمية، وجذبت شراكات عالمية جعلتها لاعباً إقليمياً مؤثراً في الابتكار. الهند تبنت نهجًا قائمًا على دعم الشركات الناشئة وتوسيع التدريب التقني، فحوّلت وفرة سكانها إلى قوة عمل ماهرة تدعم اقتصادها الرقمي الناشئ. هذه النماذج تؤكد أن الإرادة السياسية والرؤية بعيدة المدى تصنع الفارق، وأن الفقر الرقمي ليس قدرًا محتومًا.
الحلول أمام الدول الناميه واضحة لكنها تتطلب شجاعة وقرارات صعبة: استثمار واسع في البنية التحتية الرقمية، إدماج علوم البيانات والذكاء الاصطناعي في التعليم، تحفيز البحث العلمي المحلي، وتبني تشريعات تحمي البيانات وتشجع الابتكار. لا يكفي استيراد الحلول الجاهزة، بل يجب تطوير تطبيقات محلية تستجيب لاحتياجات المجتمع، من إدارة الموارد الزراعية إلى تحسين كفاءة الطاقة. كما أن الشراكات الدولية يجب أن تقوم على نقل المعرفة لا مجرد الاستهلاك، مع التركيز على منصات مفتوحة المصدر تقلل الاعتماد على الشركات العملاقة وتفتح المجال أمام الابتكار المحلي.
الذكاء الاصطناعي ليس عصا سحرية تنهي فجوة عقود بين الشمال والجنوب، لكنه فرصة تاريخية لإعادة رسم خريطة التنمية العالمية. المسألة ليست في التقنية ذاتها، بل في كيفية توظيفها. الدول التي تنظر إلى الذكاء الاصطناعي كجزء من مشروع وطني شامل ستجد فيه جسرًا نحو المستقبل، أما تلك التي تتعامل معه كموضة عابرة فستبقى عالقة في الهامش، تتفرج على قطار التقدم وهو يبتعد أكثر فأكثر.
هذه اللحظة مفصلية. إما أن تتحرك الدول الناميه بخطوات جادة نحو اقتصاد المعرفة، أو تقبل بأن تصبح مجرد أسواق استهلاكية في عالم تحكمه الخوارزميات. والذكاء الاصطناعي، كما هو دائمًا الحال مع أي ثورة تكنولوجية، لا ينتظر المتأخرين.
*الدكتور جلال قناص، أستاذ الاقتصاد في جامعة قطر