صفقات الاندماج والاستحواذ في الخليج العربي
(النهار)-15/09/2025
شهدت دول مجلس التعاون الخليجي في النصف الأول من عام 2025 تراجعاً ملحوظاً في نشاط الاندماج والاستحواذ، حيث سجّلت 72 صفقة فقط، بانخفاض نسبته 22% على أساس سنويّ مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024. هذا الانخفاض أثار تساؤلات واسعة حول أسبابه الحقيقية وما إذا كان يعكس أزمة أعمق في جاذبية الأسواق الخليجية، أم أنه مجرّد تباطؤ دوريّ يرتبط بالظروف الاقتصادية العالمية الراهنة وبحسابات استراتيجية جديدة.
العوامل التي قادت إلى هذا التراجع متعددة ومتشابكة. فمن ناحية، لعب تباطؤ الاقتصاد العالمي دوراً محورياً نتيجة استمرار السياسات النقدية المتشدّدة في الولايات المتحدة وأوروبا، حيث رفعت البنوك المركزية أسعار الفائدة لكبح التضخّم. هذه السياسات قلّصت شهية المستثمرين العالميين للمخاطرة، وأثّرت في تمويل الصفقات، خصوصاً أنّ العديد من الاستحواذات تعتمد على القروض الميسّرة وتوافر السيولة. ومن ناحية أخرى، شهدت المنطقة الخليجية إعادة تقييم للأصول بعد الطفرة الاستثمارية التي أعقبت جائحة كورونا وارتفاع أسعار النفط في 2022 و2023.
ومع تراجع أسعار النفط نسبياً، واستقرارها حول مستويات أقل، أصبحت الشركات أكثر تحفظاً في اتخاذ قرارات الاندماج، وفضّلت التريّث لمراقبة اتجاهات السوق وإعادة حساب المخاطر، كما أن التوترات الجيوسياسية المتزايدة في المنطقة ساهمت في زيادة حالة عدم اليقين، وهو ما انعكس في تأجيل أو إلغاء بعض الصفقات الكبرى، رغم أن الخليج العربي لا يزال يتمتّع باستقرار نسبيّ مقارنة بالعديد من الأسواق الناشئة الأخرى.
القطاعات المتأثّرة لم تكن جميعها بنفس الدرجة. فقد كان التراجع أكثر وضوحاً في القطاعين المالي والعقاري نتيجة ارتفاع تكلفة الاقتراض وتقلّب أسعار الفائدة. أما قطاع الطاقة فقد حافظ على جزء من زخمه بفضل استمرار برامج التحوّل نحو الطاقة المتجدّدة ومشاريع الهيدروجين الأخضر، التي تجذب شراكات استراتيجية طويلة الأجل. ومن الملاحظ أن التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والرعاية الصحية بقيت من بين القطاعات الأكثر جذباً للصفقات رغم الانخفاض العام، وذلك لارتباطها المباشر بأجندة التنويع الاقتصادي في دول الخليج التي تسعى إلى بناء اقتصادات أكثر استدامة.
من منظور استراتيجي، لا يعني هذا التباطؤ تراجعاً في جاذبية المنطقة، بل يعكس تحوّلاً في طبيعة الاستثمارات. فبدلاً من السعي وراء صفقات سريعة، تتجه الحكومات والصناديق السيادية إلى عقد صفقات ذات قيمة استراتيجية أعلى تركّز على نقل التكنولوجيا وتوطين المعرفة بما يتوافق مع رؤية السعودية 2030 وأجندة دبي الاقتصادية D33. وهذا ما يفسّر أن بعض الصفقات المنفّذة في 2025 كانت أقلّ عدداً، لكنّها أكبر حجماً، وأكثر ارتباطاً بقطاعات مستقبليّة مثل الذكاء الاصطناعي والتقنيات المالية والطاقة المتجدّدة.
معالجة هذا التراجع لا تتطلّب حلولاً قصيرة المدى بقدر ما تحتاج إلى تعزيز بيئة الأعمال عبر تحسينات تشريعية تجعل عمليات الاندماج أكثر مرونة وسرعة، وتقديم حوافز ضريبية وتشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص. كذلك، فإن للصناديق السيادية الخليجية دوراً محورياً في قيادة صفقات نوعية يمكن أن تفتح المجال أمام مشاركة أكبر من المستثمرين الدوليين، خصوصاً في القطاعات الجديدة مثل التكنولوجيا الخضراء والاقتصاد الرقمي. وهنا تبرز أهمية الاندماجات كأداة لتعزيز ثقة المستثمرين الأجانب، إذ تمنح إشارات قويّة عن جدية الأسواق في إعادة هيكلة شركاتها وتحسين كفاءتها التنافسية.
إن التباطؤ الحالي يمكن النظر إليه كفرصة لإعادة هيكلة الأسواق بدل اعتباره أزمة. فالاندماجات ليست مجرد مؤشر على النشاط الاقتصادي، بل هي أداة استراتيجية لتعزيز التنافسية وجذب الاستثمارات وإعادة تشكيل الهياكل الاقتصادية. وإذا ما نجحت الحكومات في استغلال هذه المرحلة لبناء قدرات مؤسّسية وقانونية أقوى، فإن النصف الثاني من هذا العقد قد يشهد عودة قوية لنشاط الاستحواذ، ولكن بشكل أكثر استدامة وتوافقاً مع التحولات الاقتصادية العالمية ومتطلبات التنمية في المنطقة.