الخليج طرف فاعل في سباق المعادن الاستراتيجية
(النهار)-06/11/2025
في خضم التحولات العميقة التي يشهدها الاقتصاد العالمي لأسباب منها السباق في مجال التكنولوجيا والتحوّل نحو الطاقة النظيفة، تبرز المعادن النادرة باعتبارها المدخلات الحيوية للصناعات المستقبلية، من بطاريات المركبات الكهربائية إلى الروبوتات والأنظمة الدفاعية والذكاء الاصطناعي. هذا التغير الهيكلي يجعل السيطرة على سلاسل إمداد المعادن الحيوية محور نزاع جيوسياسي بين القوى الكبرى، وفي مقدمها الولايات المتحدة والصين، لكنه يفتح في الوقت نفسه نافذة استراتيجية أمام بلدان الخليج، وعلى رأسها دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، لتتحول من بلدان منتجة تقليدياً للطاقة الأحفورية إلى أطراف فاعلة في مكونات طاقة المستقبل.
تندرج الخطوة الإماراتية الأميركية الأخيرة باستثمار 1,8 مليار دولار في تعدين المعادن الحيوية وتكريرها. في هذا السياق، يساهم كل من صندوق الثروة السيادية في أبو ظبي (القابضة إيه دي كيو) و”مؤسسة تمويل التنمية الدولية” وشركة “أوريون” الأميركيين بمبلغ 600 مليون دولار في “كونسورتيوم أوريون للمعادن الحرجة” الذي أُطلِق أخيراً. ولا تكمن أهمية هذه الخطوة في حجم الاستثمار فحسب، بل أيضاً في توقيته ومضمونه. تعترف الولايات المتحدة ضمنياً بأن أمنها الصناعي لا يمكن ضمانه من دون حلفاء قادرين على المشاركة في بناء سلاسل إمداد بديلة من الصين. وبالنسبة إلى الإمارات، يعزز هذا التموضع دورها كمركز عالمي للطاقة التقليدية والجديدة، ويمنحها مكاناً في صناعة تُعَد العمود الفقري للتكنولوجيات المتقدمة.
في خط موازٍ لذلك، تعزز الشراكة بين السعودية والولايات المتحدة التعاون في القطاع نفسه بهدف تأمين سلاسل الإمداد العالمية. وتشمل هذه الشراكة مذكرة تعاون حكومية بين وزارة الصناعة والثروة المعدنية السعودية ووزارة الطاقة الأميركية، واتفاقاً بين شركة “معادن” السعودية وشركة “إم بي ماتيريالز” الأميركية لإنشاء سلسلة قيمة متكاملة. هذه الجهود المشتركة، المدعومة بزيارات رسمية ومبادرات مثل “منارة المعادن”، تهدف إلى تنويع مصادر هذه الموارد الحيوية وتقليل الاعتماد على جهات أخرى، بما يخدم الأهداف الاستراتيجية لكلا البلدين، وخصوصاً “رؤية 2030”.
يركز الجانبان الخليجي والأميركي على تطوير مشاريع تعدين ومعالجة في مناطق غنية بالمعادن مثل أفريقيا وأميركا الجنوبية وأوستراليا وكندا، بما يضمن تأمين مصادر موثوقة للمواد المعنية بعيداً من الهيمنة الصينية على السوق، ذلك أن الصين تسيطر على نحو 70% من إنتاج المعادن النادرة و90% من عمليات معالجتها، وهي تستخدم هذه القدرة منذ سنتين ورقة ضغط على واشنطن، عبر قيود تصدير على معادن أساسية مثل الغاليوم والجرمانيوم. في المقابل، اعتمدت الولايات المتحدة سياسة هجومية لحماية سلاسل الإمداد تضمنت تملك حصص مباشرة في شركات تعدين وتمويل مشاريع معالجة وتعهدات شراء لمدد طويلة، إضافة إلى إبرام اتفاقات مع أوستراليا واليابان وتايلاند وماليزيا لتعزيز قدراتها الاستخراجية خارج الأراضي الأميركية.
وعلى رغم التوصل إلى تسوية موقتة مع الصين لتأجيل تطبيق القيود على صادرات المعادن لعام واحد، يدرك صناع القرار في واشنطن أن الاعتماد على “كلمة شرف” في مجال السلع الاستراتيجية أمر محفوف بالمخاطر، ولذلك ينظرون إلى الخليج كمحور حيوي لتعزيز الأمن الصناعي الغربي وتوزيع المخاطر الجيوسياسية. هنا يظهر دور الخليج كوسيط وشريك في آن واحد: هو يمتلك رأس المال والموقع الجغرافي المناسب وعلاقات متوازنة مع الشرق والغرب، ما يؤهله لأداء دور المُوازِن والموفِّر في سوق المعادن الحيوية.
لكن هذا الدور لا يخلو من تحديات كثيرة. مثلاً، تصطدم الاستثمارات الخليجية في أفريقيا الغنية بالمعادن، أحياناً، بمصالح الصين، وقد يجد الخليج نفسه مضطراً إلى السير على حبل دقيق بين شريكه الاقتصادي الأكبر في الشرق وشريكه الأمني الأبرز في الغرب. لكن في المحصلة، تدخل الإمارات والسعودية مرحلة جديدة من إعادة تعريف دوريهما في الاقتصاد العالمي. بالتحوّل من بلدين موردين للنفط والغاز إلى طرفين فاعلين في قطاع المعادن الاستراتيجية، وفي ظل المنافسة الأميركية – الصينية، ستُتَاح للإمارات والسعودية خصوصاً وللخليج عموماً فرصة لإعادة التموضع عالياً في منظومة الطاقة والصناعة العالمية.
