الاستراتيجية الخليجية للذكاء الاصطناعي
(العربية)-10/11/2025
*د. إحسان علي بوحليقة
سؤال يفرض نفسه تزامناً مع تصاعد زخم مبادرات دول مجلس التعاون للاستفادة بعمق من ثورة الذكاء الاصطناعي بما يعزز تنوع اقتصاداتها. ويذكر هذا بالوضع في الستينيات من القرن الميلادي المنصرم، عندما أخذت دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية -كل على حدة- النظر إلى الصناعات التحويلية كخيار استراتيجي لتحقيق التنويع الاقتصادي، حيث اختطت كل منها خطاً مستقلاً، ثم قررن في السبعينيات، مع تعاظم الفوائض النفطية التنسيق فيما بينها للحد من تكرار الجهود.
وفيما يتصل بالذكاء الاصطناعي فلكل دولة من الدول الست دونما استثناء اهتمام بتحقيق تقدم في توظيف الذكاء الاصطناعي، وتبرز في هذا المجال مبادرات السعودية والأمارات فهي ذات صبغة عالمية، ومن ضمن جهدهما تأسيس السعودية شركة “هيومين” العملاقة ذات الاهتمام الشامل بالذكاء الاصطناعي من النهاية إلى النهاية بما في ذلك البنية التحتية ولاسيما مراكز البيانات، فيما أسست الأمارات شركة G-42. وما يميز جهود الدولتين هو سعيهما لتصبحا في مقدمة الدول عالمياً، ليس فقط استخداماً ولكن تصنيعاً للذكاء؛ إذ تسعى جهود هيومين لبناء منظومة تعمل كمصنع للذكاء الاصطناعي، ومصنع الذكاء الاصطناعي هو مركز حوسبة فائقة القدرات مخصص لتطوير وتدريب وتشغيل ونشر نماذج الذكاء الاصطناعي الضخمة والتطبيقات المتقدمة باستخدام بنية تحتية متكاملة من حيث التجهيزات والطاقة والبيانات والبرمجيات والأمان والسيادة الوطنية (الامتثال للنظم المحلية ومحلية البيانات)، ما يؤدي إلى تقليل الاعتماد على السحابات الخارجية وتسريع التطوير وتمكين القطاعات المحلية من توظيف الذكاء الاصطناعي في الطاقة والصحة والأمن والدفاع والإدارة المحلية.
حالياً، يوجد حد أدنى من التنسيق فيما بين الدول الست فيما يتصل بالذكاء الاصطناعي، حيث لا مبادرات “خليجية” للذكاء الاصطناعي، وهذا أمر يستحق تحركاً استراتيجياً للاستفادة من الفرص الهائلة المتاحة أمام دول المجلس لتصبح محوراً عالمياً في الثورة “الذكية” المعاشة والتي لم نشهد بعد إلا الصفحات الأولى من فصلها الأول.
وفي هذا السياق يتبادر سؤال: هل أطلقت التكتلات الاقليمية الأخرى مبادرات نوعية في الذكاء الاصطناعي؟ للاجابة على السؤال نأخذ حالتين لتكتلين نشطين هما رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، والاتحاد الأوربي.
(1) حيث تسعى دول “آسيان” أن يُضيف الذكاء الاصطناعي ما قد يصل إلى ترليون دولار إلى اقتصاداتها بحلول 2030، وهي تطور حزمة منسقة اقليمياً من مبادرات للذكاء الاصطناعي، تركز على الحوكمة الأخلاقية، والتوافقية، وبناء القدرات. وانشاء هيئة عالية المستوى لتنسيق الحكومة ورصد التقدم والمشاركة في أفضل الممارسات والتفاعل مع الشركاء الدوليين وتعيين سفير من كل دولة عضو لدفع التنفيذ، وكما هو واضح تهدف هذه الجهود إلى توحيد التوجهات الوطنية عبر الدول الأعضاء العشر لتعزيز الاستفادة من الذكاء الاصطناعي بشكل شامل مع مراعاة مستويات النضج الرقمي المتنوعة في المنطقة.
(2) دون منازع، يمتلك الاتحاد الأوروبي (EU) مجموعة شاملة من مبادرات الذكاء الاصطناعي على مستوى الكتلة، تجمع تلك المبادرات بين التنظيمات الملزمة، والاستثمارات الكبيرة، والنظم البيئية للابتكار لجعل أوروبا رائدة عالميًا في الذكاء الاصطناعي، حيث تركز هذه الجهود على عناصر: الثقة، والسيادة، والتنافسية، مع استثمارات سنوية تتجاوز مليار يورو من خلال برامج مشتركة، حيث سن الاتحاد أول قانون شامل للذكاء الاصطناعي في العالم، سرى مفعوله في أغسطس 2024، يعتمد إطارًا قائمًا على إدارة مخاطر أنظمة الذكاء الاصطناعي، وقاعدة بيانات على مستوى الاتحاد الأوروبي للذكاء الاصطناعي عالي المخاطر ويعزز الشفافية للنماذج الضخمة عامة الاستخدام، بالإضافة إلى استراتيجية الذكاء الاصطناعي الأوروبية وخطة عمل قارة الذكاء الاصطناعي، صدرت في العام 2025، حددت الطموحات لريادة الاتحاد الأوروبي، مع هدف 75% اعتماد الذكاء الاصطناعي من قبل الشركات بحلول 2030. وتعزيز تغلغل الذكاء الاصطناعي في القطاعات الاستراتيجية (مثل الرعاية الصحية والطاقة) عبر مصانع الذكاء الاصطناعي العملاقة وتوحيد الوصول إلى البيانات، ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، وتدريب المواهب. وبالإضافة لذلك استراتيجية تطبيق الذكاء الاصطناعي، التي أطلقت في أكتوبر المنصرم (2025) لصيانة السيادة من خلال نماذج مفتوحة المصدر، وتحويل القطاعات (مثل الأدوية، والأمن والدفاع)، ومعالجة تحديات البنية التحتية وتحديداً مراكز البيانات. وتدمج الارشادات الاخلاقية في المشتريات، بالإضافة إلى برنامج الاستثمار والابتكار ومكتب الذكاء الاصطناعي الأوربي مهمته تفعيل قانون الذكاء الاصطناعي الأوربي.
أعود لبداية الحديث للقول أن ثمة فرصة أمام دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية أن تستفيد من أفضل الممارسات بأن تحذو حذو تكتليّ “الآسيان” والاتحاد الأوربي في صياغة استراتيجية خليجية للذكاء الاصطناعي، تحدد من خلالها أُطرّ العمل فيما بينها، وتُعلن طموحاتها الجامعة ومبادراتها التنفيذية بما يجعل منطقة دول المجلس محوراً رئيساً لتصنيع الذكاء الاصطناعي ومُصدراً عالمياً للطاقة وحاضناً لمراكز البيانات من الصعب منافستهِ بالنظر لموقعه الجغرافي ولحياده العالمي.
