اتفاقية باريس ليست مثالية.. لكن لا بد لها ألا تنهار
(البيان)-12/11/2025
بعد عقد من اعتمادها التاريخي، أبرزت اتفاقية الأمم المتحدة في باريس -بجلاء- حقيقة أن تغير المناخ تهديد خطِر تسبب فيه البشر، ولا بد عليهم من معالجته. وبينما يواصل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الادعاء أن تغير المناخ «أكبر عملية احتيال على الإطلاق» وأن الطاقة الخضراء «خدعة»، فإنه يواجه صعوبات واعتراضات كثيرة.
لا يعني ذلك بالمرة أن الاتفاقية حققت نجاحاً باهراً، بل على العكس من ذلك تماماً، فقد فشلت الدول التي وقّعت على الاتفاقية، والبالغ عددها نحو 200 دولة، في وقف الارتفاع القياسي في استخدام الوقود الأحفوري، وهو ما يعني أن مستويات قياسية من غازات الاحتباس الحراري تزيد من درجات الحرارة العالمية القياسية وتغذي ظواهر جوية متطرفة.
وقد اضطرت الأمم المتحدة إلى الاعتراف بأن العالم يقترب من تجاوز هدف الاتفاقية المتمثل في الحد من الاحتباس الحراري العالمي على المدى الطويل إلى 1.5 درجة مئوية أكثر مما كان الأمر عليه في أواخر القرن التاسع عشر.
ويمكن القول، كما توضح عالمة السياسة جيسيكا غرين في كتابها الأخير «السياسات الوجودية»، إن «اتفاقية باريس تتأرجح لتقف على حافة العدم التام».
بل يذهب البعض إلى أبعد من ذلك ويقول إن الاتفاقية جزء من عملية مناخية للأمم المتحدة «صارت شكلاً متقناً من التضليل البيئي» لأنها تعطي العالم انطباعاً بأن هناك تقدماً مناخياً، في حين أن الأمر في الواقع ليس كذلك.
رغم ذلك كله، لا يمكن إسقاط الاتفاقية واعتبارها فشلاً ذريعاً لأن ذلك سيكون خطأً فادحاً تماماً. فبادئ ذي بدء، على الرغم من أننا لا نستطيع أبداً معرفة كيف كان سيبدو العالم من دونها، فإنه ليس من الصعب بالمرة التكهن بما يمكن أن يحدث.
كان من الأسهل بكثير على قادة الدول الكبرى المنتجة للوقود الأحفوري مقاومة سياسات خفض الانبعاثات لو لم تُرسخ الاتفاقية هذا العمل المناخي في الفكر السائد. كذلك، لو كانت الاتفاقية بلا جدوى، فهل كان ترامب ليُكلف نفسه عناء الانسحاب منها مرتين؟
ورغم الإقرار بأن جهود خفض الانبعاثات لم تكن كافية، فإنها لم تكن بلا جدوى. فقبل عشر سنوات، كان العالم يتجه نحو ارتفاع في درجة الحرارة بنحو 4 درجات مئوية بحلول نهاية القرن، أما اليوم فيُقدر العلماء ارتفاعها بنحو 2.7 درجة مئوية أو أقل.
ومع أن هذا الرقم لا يزال مرتفعاً بشكل خطِر، فإنه يُمثل تحسناً، وقد حدث ذلك بسبب تباطؤ نمو الانبعاثات الذي بدا بعيداً كل البعد عن الحتمية قبل اتفاقية باريس.
كما أنه في العقد الذي سبق عام 2015، كانت الانبعاثات ترتفع بنسبة 1.7 في المائة سنوياً. وفي العقد الذي تلا ذلك، تباطأت إلى 0.3 في المائة سنوياً، وفقاً لمحللين في مركز أبحاث وحدة استخبارات الطاقة والمناخ في المملكة المتحدة. جاء هذا التباطؤ في ظل الارتفاع الملحوظ في الطاقة المتجددة الذي خالف الكثير من التوقعات في مجال الطاقة.
ويقول مركز الأبحاث إن توقعات وكالة الطاقة الدولية لعام 2015 كانت تشير إلى أن سعة الطاقة الشمسية العالمية ستصل إلى نحو 530 جيجاوات بحلول عام 2024، في حين أضاف العالم أكثر من هذا الحجم الإجمالي خلال العام الماضي وحده.
وتتجاوز السعة الإجمالية للطاقة الشمسية المركبة الآن أربعة أضعاف ما كان متوقعاً في عام 2015، والقصة مماثلة بالنسبة لطاقة الرياح. كذلك، فقد ارتفعت حصة السيارات الكهربائية إلى أكثر من 20 في المائة من مبيعات السيارات الجديدة عالمياً العام الماضي، أي قبل 6 سنوات من التوقعات.
وأحد أسباب عدم توقع الخبراء لهذه التطورات الإيجابية هو أن كلفة العديد من التقنيات الخضراء انخفضت بشكل أسرع بكثير من المتوقع عند نشرها. وقد سهّل هذا على دول العالم تشجيع نمو الطاقة النظيفة.
كما أن دولة واحدة على وجه الخصوص لعبت دوراً بالغ الأهمية في هذا المجال، وهي الصين. فقد أسهمت المليارات التي ضختها الصين في التقنيات الخضراء في خفض التكاليف، وحولتها إلى قوة عظمى في مجال الطاقة المتجددة عالمياً، على الرغم من أنها لا تزال أكبر مصادر التلويث بالكربون.
وقد يرى البعض أن هذا القرار من جانب بكين لا يتعلق باتفاقية باريس، بل لأن سياستها الصناعية الخضراء الفريدة جاءت متوافقة مع الأهداف الاقتصادية والتجارية الأوسع.
ومع ذلك، فإن صادراتها المتنامية من تكنولوجيا الطاقة النظيفة تُسهّل بلا شك على الدول الأخرى الوفاء بخطط المناخ التي يتعين تقديمها كل خمس سنوات بموجب اتفاقية باريس.
وهذه الخطط لا تُشكّل للأسف عملاً جماعياً كافياً لخفض الانبعاثات بالوتيرة المطلوبة لكنها حفزت تحولات كبيرة في مجالات مثل توليد الكهرباء الذي يتسبب، إلى جانب التدفئة، في نحو 30% من الانبعاثات العالمية.
وخلال النصف الأول من هذا العام، تجاوزت مصادر الطاقة المتجددة الفحم لأول مرة على الإطلاق، كما أظهرت مجموعة أبحاث «إمبر» للطاقة أن الطاقة الشمسية وحدها قامت بتلبية 83% من الزيادة في الطلب على الكهرباء، ما قلص استخدام الوقود الأحفوري في عدد من البلدان.
في المقابل، تقلصت توقعات نمو الطاقة الخضراء بشكل حاد في الاقتصاد الأمريكي، الأكبر في العالم، وذلك بسبب جهود إدارة ترامب لإطالة عصر الوقود الأحفوري. هذا تذكير بأن التعددية تواجه قيوداً هائلة، ولن تكون الأمم المتحدة واتفاقياتها البيئية ذات قيمة إلا بقدر ما تسمح به الحكومات التي تصوغها.
كان سيستحيل التفاوض على اتفاقية باريس اليوم، بسبب ترامب، كما أنها طالما اعتُبرت انتصاراً دبلوماسياً أكثر منها نصراً علمياً، لكنها أحدثت فرقاً لا يمكن إنكاره حتى وإن لم يقترب بعد من الحد الكافي. والسؤال الأهم هو: هل ستُحقق يوماً كل ما تمنى مهندسوها؟
