كباش الدولة و”المركزي” والمصارف والـIMF على: المودعين والضرائب والتبييض والإرهاب
(الجمهورية)-12/11/2025
شهدت الأسابيع الأربعة الأخيرة مروحة واسعة من مبادلات الأفكار والاجتماعات، لوضع لبنان على سكة الإصلاح المالي والنقدي والاقتصادي، بدءاً من زيارة وفد لبناني يرأسه وزيرا المال ياسين جابر، والاقتصاد عامر البساط إلى واشنطن، وبعدها قدوم وفدَي صندوق النقد الدولي ووزارة الخزانة الأميركية، والنتيجة واحدة: لبنان متخلّف عن الإصلاحات وفاقد للثقة الدولية.
كرّر أحد مسؤولي صندوق النقد في أحد اللقاءات غير المعنية بالمفاوضات مع الدولة، حقيقة أنّ «لبنان لا يمكنه أن يكسب دعم وثقة أصدقائه الغربيِّين، الساعين إلى دعمه بالمساعدات والتبرّعات والاستثمارات، إلّا إذا مرّ عبر اتفاق مع صندوق النقد. لكن ليَعبُر هذا الامتحان عليه تطبيق جميع الإصلاحات، أي أن يصبح بمستوى الشفافية المالية والنقدية، أسوةً بالولايات المتحدة الأميركية».
بناءً على ذلك، وبحسب معلومات «الجمهورية» من مسؤولَين فضّلا عدم الكشف عن هويّتهما، أحدهما من الطرف الأميركي والثاني من الطرف اللبناني المفاوض، هناك أولويات متعدّدة تتوزّع كالتالي: «إكمال إلغاء السرّية المصرفية، إعداد قانون الفجوة المالية وتحديد المسؤوليات على المستبّبين بالأزمة، وإزالة الشوائب القانونية-السياسية من قانون إصلاح المصارف، مكافحة تهريب وتبييض الأموال ودعم الإرهاب، حصر اقتصاد الكاش وتحويل سيولة الكاش إلى سيولة إلكترونية، إصلاح هيكل الموازنة العامة، هيكلة النظام الضريبي ومكافحة التهرّب».
تعديلات القوانين
بحسب المسؤول الأميركي، فإنّ الوفد اللبناني الذي زار واشنطن خلال اجتماعات الخريف لصندوق النقد الدولي، وأفاد من الرحلة للقاء مسؤولي «الخزانة الأميركية»، قدّم «التزاماً باسم الحكومة اللبنانية يشتمل على تقديم مشروعَي قانون إلى مجلس النواب، الأول يعالج بعض الشوائب الطفيفة المتبقية في قانون السرّية المصرفية الملغاة بالمبدأ، فيما الثاني يجب أن يشتمل على تطوير وتغييرات مهمّة في قانون إصلاح المصارف، مثل تقسيم الهيئة المصرفية العليا إلى غرفتين والتعيينات التي تحدث في الغرفتَين، ممّا يهدّد باستقلاليتها عن الذين تسبّبوا بالأزمة»، وهنا الإشارة إلى المصارف ومصرف لبنان والدولة، خصوصاً هيمنة حاكم مصرف لبنان بمبدأ «تركيز هيمنة الحاكم».
بكلام آخر، إنّ وجود أكثرية لأصحاب المسؤوليات التي يجب التحقيق بما ارتكبوه، ينتفي مع مبدأي العدالة والمحاسبة، إذ كيف لجهة متَهَمة أن تُحاكِم نفسها بنفسها؟! من هنا ضرورة ضمان استقلاليّتها عبر تكريس الطابع القضائي على عملها. بالإضافة إلى ذلك، طُلِبَت تعديلات أخرى طفيفة، بحسب المسؤول اللبناني، كالجهات المكلّفة تعيين مدير موقت للمصرف الذي توضَع اليَد عليه وأدوات معالجة أوضاع هذه المصارف، وإعادة الأموال المحوّلة إلى الخارج…
إلّا أنّ الجهات الأميركية وبعض الجهات الحكومية اللبنانية، تتخوّف من المَسّ بمشروعَي القانون من قِبَل ما بات يُعرَف بـ«اللوبي المصرفي في لجنة المال والموازنة النيابية وفي الهيئة العامة لمجلس النواب»، وهذا ما حدث سابقاً عند إرسال القانونَين في الأشهر الأخيرة، إذ تعرّضا لتشوّهات قانونية تصبّ في صالح كبار المساهمين في المصارف، الذين جالوا بدورهم في الأسبوعَين الأخيرَين على الرؤساء والوزارء والمسؤولين، في محاولة لتقليص المسؤوليات والالتزامات المترتبة عليهم.
معضلة قانون الفجوة المالية
يُشكّل مشروع قانون معالجة الفجوة المالية، بحسب كلام المسؤولَين اللبناني والأميركي، قنبلةً كبرى تتهدّد بشكل أساسي طرفَين من بين ثلاثة سيتحمّلون كلفة الانهيار، وهما جمعية المصارف (المساهمون أو حاملو الأسهم في المصارف) ومصرف لبنان المركزي، فيما باتت الحكومة في وضع أكثر هدوءاً..
ويعود ذلك الهدوء لدى الأوساط الحكومية، إلى أنّ الدولة يُتوقع أنّ تتحمّل مسؤولية إعادة ما بين 16 إلى 20 مليار دولار من الودائع، وقد وافقت على تحمّل مسؤولياتها. فيما يُرتقب أن يُشطَب حوالى 30 إلى 35 مليار دولار من الودائع، تحت ذريعة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب والأعمال غير القانونية، بالإضافة إلى الفوائد على الودائع وأرباح الهندسات المالية، وصيرفة وأرباحها، وصولاً إلى «هيركات» على الودائع المحوّلة من الليرة اللبنانية إلى الدولار الأميركي بعد 17 تشرين الأول 2019.
علماً أنّ التقديرات حول شوائب المصارف، أي شوائب الهندسات المالية، لم تُحسَم قيمتها النهائية بشكل نهائي، ويعتقد بعض الأطراف أنّها تزيد قيمة الأموال المشطوبة. إذ هناك أيضاً 8 مليارات دولار بملف شركة «أوبتيموم»، ممّا قد يُحرّك ملف الحاكم السابق رياض سلامة في أي لحظة قد يجد فيها المصرف المركزي نفسه غير قادر على التحرّك للإيفاء بالتزاماته.
إلى ذلك، من حصة المصارف، هناك القروض التي أخذتها بالدولار وأعادتها باللولار، وهي تناهز الـ10 مليارات دولار.
بهذه النتيجة يُشطب ما يقارب ثلث الودائع، فيما يتبقى ثلثان يُقسّمان على الدولة والمصرف المركزي والمصارف، وبعد تحديد متوجّبات الدولة التي تقترب من الـ20 مليار دولار، تُحسَم القيمة النهائية لالتزامات الطرفين الآخرين، بحسب نتائج التدقيقات الجنائية التي يجب أن تُجرى بجميع حسابات مصرف لبنان والمصارف والمساهمين فيها، وهذا ما طالب به وزيرا الاقتصاد والمال أخيراً، مما أثارَ استياء حاكم المركزي وغضب جمعية المصارف.
ويزيد عن ذلك، مطالبة صندوق النقد بشطب رؤوس أموال المصارف، فيشرح المسؤول الأميركي لـ«الجمهورية»: «إن استدَنتُ منكَ المال مقابل رهن سيارتي، ولم أُسدِّد التزاماتي ستقاضيني وتأخذ سيارتي. الأمر مماثل عند المصارف، وهذا المبدأ الأول والأساسي لكسب الثقة في الطبيعة الرأسمالية للاقتصاد الحر. عندما يضع الفرد وديعة في المصرف، أي أنّ المصرف استدان الأموال منه – ليستثمرها بقروض إلى مؤسسات وأفراد آخرين ويربح منها. فإن لم يستطع المصرف أن يُعيد الأموال للمودع، فهو إمّا مفلس أو متخلّف عن سدادها كاملةً، بالنتيجة يتحمّل المستثمرون بالمصرف، أي مالكوه (حاملو الأسهم فيه) مسؤولية إعادة الأموال من أموالهم الخاصة وممتلكاتهم. وإذا لم يكونوا يملكون مبلغ الالتزام المالي هذا، تُصفّى مساهمتهم في المصرف وتُباع إلى مستثمرين جدد، ممّا يضمن استمرار المؤسسة المصرفية على رغم من تغيير المالكين واستمرار الثقة بالنظام المالي».
ولأنّ الأزمة أزمة نظام مصرفي، وليست فقط أزمة كل مصرف على حدة، ارتأى الطرفان اللبناني والدولي أن يكون شطب المساهمة بالمصرف بحق مَن لا يستطيع إيفاء كل التزاماته تجاه المودعين، أي يجب أن يتملّك رأس المال.
الكاش والتبييض
لا شكّ في أنّ التسريبات التي تلت زيارة وفد الخزانة الأميركية إلى الرؤساء والمسؤولين اللبنانيِّين، أسالت كثيراً من الحِبر، وكان عنوانها «مكافحة تمويل الإرهاب وتبييض الأموال». لكنّ النتائج لم تكن مرضية إلى ذلك الحدّ، إذ اقتصرت التطمينات على كلام رئيسَي الجمهورية والحكومة، بأنّ هناك جهداً يُبذَل لمكافحة تبييض الأموال.
غير أنّ النتيجة الحقيقية، هي أنّ لبنان متخلّف في مكافحة تمويل «الإرهاب»، أي تجفيف مصادر تمويل «حزب الله» وجميع الميليشيات الفلسطينية وغير الفلسطينية النشطة على أراضيه. وتصل يَد هذه الميليشيات من العاصمة التركية أنقرة إلى بلجيكا وألمانيا، وسلسلة من الدول الإفريقية (ساحل العاج، سيراليون، نيجيريا، الكونغو الديمقراطية…) وصولاً إلى أميركا اللاتينية (فنزويلا، كولومبيا، بوليفيا، الباراغواي، البرازيل…)، بشبكات تجار مخدّرات وسلاح عابرة للحدود، يقودها مسؤولون في «حزب الله» ومن الحرس الثوري الإيراني، بحسب ما يكشف المسؤول الأميركي.
إلى ذلك، يعتبر وفد الخزانة، كما صندوق النقد الدولي، أنّ «لبنان متأخّر في محاربة اقتصاد الكاش بدرجة كبيرة، ولم يقم بجهود حقيقية لإغلاق مؤسسة «القرض الحسن» ومؤسسات مالية أصغر تابعة لـ«حزب الله» ومصادرة مقراتها وممتلكاتها، على رغم من أنّها مخالفة للقانون، وذلك بسبب غياب القرار السياسي وتلكّؤ المسؤولين عبر الحكومة والمصرف المركزي».
غير أنّ الوفد ألمحَ إلى إيجابية في تطوّر ضبط الحدود، لكنّه «تطوّر محدود للغاية. إذ إنّ الأموال ما زالت تدخل عبر أفراد عبر المرفأ والمطار، ومنها ما يُقسّم إلى رُزَم من 10 آلاف دولار للتحايل على القانون. لذلك، لم يُطلب تخفيض سقف تبرير مصدر الأموال فحسب، إنّما ربطه بحسابات مصرفية وأوراق ثبوتية ضريبية ومالية من الدولة الآتية منها»، لكنّ الطرف اللبناني لم يُعطِ التزامات مباشرة بتطبيقها.
كما أنّ المصادر اللبنانية تُشير إلى أنّ أفكاراً تداولت بين بعض المسؤولين في شأن أموال «القرض الحسن»، عند قرار مصادرتها لجهة الدولة، وأبرزها فكرة كانت شبه مشتركة بين جميع الأطراف وهي: أنّ هذه الأموال يجب أن تُصادَر وفق القانون، لكن يجب إيجاد طريقة لإعادة صرفها للجهات المتضرّرة من المدنيِّين الذين وضعوا أموالهم لدى هذه المؤسسة غير الشرعية، وذلك لاحتواء الشارع وعدم تأجيج الصراع في الملف. لكنّ الخلاف هو كيفية تقديم هذه الأموال المصادرة وفقاً للقانون إلى الأشخاص الذين «استثمروها خلافاً للقانون»: هل عبر خدمات إعادة إعمار؟ أم عبر خدمات اجتماعية وصحية؟ أم عبر مساعدات مالية تحت عنوان «إيجارات وعائلات فقيرة» متضرّرة من الحرب الإسرائيلية؟
الموازنة والضرائب
من جهة أخرى، عبّر مسؤول كبير في صندوق النقد، في حديث عام، عن إيجابية تجاه تطوّر طرأ على الموازنة الحالية مقارنةً بسابقاتها، لافتاً إلى أنّ «موازنات سابقة، منذ حوالى 3-4 سنوات، كانت لا تصل إلى رُبع حجم هذه الموازنة التي تشهد فورةً محدودة وإيجابية في الإيرادات، خصوصاً عبر الجمارك».
ومن الملاحظات التي أبداها هذا المسؤول، أنّ هناك توافقاً كبيراً في شأن تطوّر الموازنات المقبلة، وحتى شكل ونوعية الضرائب، وأنّ بعض النصائح قُدِّمت إلى الوفد اللبناني لزيادة الإيرادات وتطوير «النفقات».
وفي التفاصيل، إنّ توصيات زيادة الإيرادات اشتملت على زيادة الضرائب على التبغ والكحول والسكّر بأكثر من ضعفَين، لاعتبار أنّ تقليص استهلاكها يُشكّل تقليصاً في النفقات الصحية، لكنّ ملاحظات أبدِيَت من القطاع الخاص بخصوص الضرائب على السكّر، لاعتبارها أنّها «تمسّ قطاع الحلويات، أي تمسّ القطاع السياحي الحيَوي للبنان. بالإضافة إلى بعض الصناعات الغذائية التي يعوّل عليها لبنان لزيادة ناتجه القومي». فيما يتخلّف لبنان عن زيادة الضرائب على التبغ والكحول لعدم تقليص إيرادات «الريجي» ولا تقليص استثمارات القطاع السياحي في الوقت الراهن، لكن يتوقع أن يكون لذلك خطة على المدى المتوسط أو الطويل.
ويلفت المسؤول في صندوق النقد، إلى أنّ «إيرادات الضريبة على القيمة المضافة (VAT) لا يجب تقليص نسبها حالياً، لأنّ الدولة لم تُنجِز إعادة هيكلة لنظامها الضريبي كاملاً وتُوقِف اقتصاد الكاش، فهي مفيدة للحظة لكنّها مضرّة جداً على المدى الطويل… لذلك يجب الإسراع في زيادة الضرائب المباشرة لتقليص هذه الضريبة غير المباشرة وتحسين القدرة الشرائية للمواطنين تجاه السلع والخدمات التي تخدم الناتج القومي المحلي، ومنها تقليص نفقات المحروقات عبر الكهرباء والنقل العام عبر زيادة الضرائب على البنزين تجاه الأفراد وتأمين أسعار مدروسة للمؤسسات الصناعية والخدماتية».
أمّا في ما يتعلّق بالنفقات، فلفت المسؤول الأميركي ووافقه مدير عام في وزارة كبرى، إلى أنّ النفقات هي جارية، أي إنّ الاستثمارات شبه غائبة. ومن هنا ضرورة الإسراع بإعادة هيكلة القطاع العام وتقليص نفقات أجوره ورواتبه، للحدّ في المصاريف غير الضرورية، ليس عبر المكننة فحسب، إنّما عبر الـBlock Chaining والـSmart Governance، أي على لبنان أن «يقفز أجيالاً في الحَوكمة دفعةً واحدة».
