السودان.. اقتصاد ممزق وموارد رهينة الصراعات
(سي ان بي سي)-17/11/2025
في هذه القارة السمراء التي تعج بالثروات الحيوانية والمعدنية والنباتية، لا بد أن تكون تحت أنظار غطرسة التجار ومطامع الدول التي لا تزال تسعى لتوسيع مستعمراتها، ليس مساحةً وإنما نهباً.
وعلى مساحةٍ تمتد لأكثر من 1.8 مليون كم² شمال شرقي أفريقيا، يتربّع السودان، هذا البلد الذي عانى من حروبٍ أهلية منذ استقلاله في عام 1956 وحتى يومنا هذا.
نشأة صراعات القرن العشرين
في عام 1983 نشب صراعٌ ديني طائفي عندما شرع الرئيس آنذاك جعفر النميري باعتبار الشريعة الإسلامية المرجعية الدينية الوحيدة للقضاء في السودان، مما زرع فتيل حربٍ أهلية بين الشمال المسلم والجنوب المسيحي بقيادة جيش التحرير الشعبي السوداني. وبعد حربٍ دامية خلّفت آلاف القتلى بين الطرفين، تمكّن جنوب السودان من الانفصال عن الدولة الإسلامية عام 2011.
لم تتوقف الأمور عند هذا الحد، ففي خلال حكم الرئيس السوداني عمر البشير الممتدّ ثلاثين عاماً (1989–2019)، عانت بعض ولايات السودان من فقرٍ في البنى التحتية والتطوير العمراني مقارنة بما حظيت به ولايات الوسط والعاصمة الخرطوم، مما أدى إلى ظهور احتجاجاتٍ هزّت الشارع السوداني، وتطورت فيما بعد إلى ثورةٍ شعبية أُطيح على إثرها بحكم البشير.
أما دارفور فقد شهدت صراعاتٍ قبلية ليست بالجديدة، لكن أشدّها كان عام 2003 عندما تسلّحت الحركات المتمرّدة ضد الحكومة احتجاجاً على التوزيع غير العادل للسلطة والثروة، وكان نتيجتها إبادة جماعية لأكثر من 300 ألف شخص وتشريد الملايين ولجوء مئات الآلاف إلى الدول المجاورة.
وما زال السودان ينزف حتى الآن من صراعاتٍ أهلية بين فصائل متمثّلة في القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع وحركة العدل والمساواة المتمرّدة، وجميع هذه الحركات مدعومة خارجياً لخدمة أجنداتٍ معينة.
السودان.. بلد الثروات المنهوبة
عندما تتغلب الحكومات الكليبتوقراطية على مقدّرات الشعوب، فلن نترقّب إلا الفقر والدمار. وحين يستيقظ السودان على جبالٍ من ذهب، فما له إلا أن يقع فريسة لأنظمةٍ لا تتطلّع إلا لزيادة ثرائها ولو كان الثمن دم شعبها المسلوب.
فبعد انفصال جنوب السودان منذ 14 عاماً، فقد السودان ثلثي عائدات النفط، مما حفّز قطاع تعدين الذهب على البروز كأول موردٍ لعوائد الدولار، مدعوماً بالارتفاع الكبير في أسعار الذهب العالمية خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وبهذا القطاع تغيّرت طبيعة المشهد السياسي في السودان، حيث تم تقسيم مناطق الذهب بين بنادق قوات الدعم السريع المتمركزة في جبل عامر في دارفور، واحتُسبت مناجم ولاية نهر النيل من نصيب القوات المسلحة.
ليس الذهب المعدن الوحيد الذي تنضح به مناجم السودان، فإلى جانب ذلك تشكل الأراضي الزراعية ما يقرب من 48% من مساحة البلاد، ما يؤهله ليكون سلة غذاءٍ للعالم.
ومن أبرز ما يصدره: القطن، والفول السوداني، والصمغ العربي الذي يشكّل ما يقارب 80% من الإنتاج العالمي، إلى جانب تكوين الطبقات الرملية التي تعج بالمعادن، وعلى رأسها النحاس والنيكل والحديد، وتغطي ما يقارب 50% من مساحة السودان.
بيانات وزارة المعادن السودانية لعام 2023 أكدت أن السودان يطفو على ثرواتٍ لا تُعدّ ولا تُحصى، فاليورانيوم وحده تُقدَّر احتياطاته بنحو 1.5 مليون طن، مما جعل السودان يحتل المرتبة الثالثة عالمياً في إنتاج اليورانيوم، في حين تُقدَّر الثروة الحيوانية بأكثر من 103 ملايين رأس من الأبقار والأغنام والماعز والجمال. وبسبب نشوب الحروب المتتالية والصراعات الدائمة، أدى ذلك إلى خسائر تُقدَّر بأكثر من 250 مليار دولار للعام ذاته.
تجارة تهريب الذهب.. اقتصاد السودان المهدور
أعلنت شعبة مصدّري الذهب في السودان أن إيرادات الذهب للأشهر التسعة الأولى من العام لم تصل حتى إلى مليار دولار، في حين أنها تُقدَّر بنحو 7 مليارات دولار، رغم تصدير أكثر من 53 طناً من الذهب للفترة من يناير وحتى سبتمبر.
في تطورٍ يعمّق الأزمة الاقتصادية في السودان، حيث إن إنتاج الذهب التقليدي في ولايات كردفان ودارفور يتم تهريبه إلى الخارج ويُقدَّر بنحو ثلث إنتاج البلاد، في ظل غياب الرقابة الحكومية وسيطرة قوات الدعم السريع في ولاياتٍ ومحلياتٍ منتجة في غرب السودان، حيث تقوم شبكات التهريب بشراء الذهب من المُعدِّنين وتهريبه عبر أفريقيا الوسطى وتشاد ومن دارفور عبر طائراتٍ صغيرة مخصَّصة لذلك، وسط حكومةٍ مغيّبة بالكامل.
وبحسب الشركة السودانية للموارد المعدنية – الذراع الرقابي لوزارة المعادن – فإن 50% من إنتاج الذهب في السودان يتم تهريبه، حيث وصل إنتاج الذهب ذروته في عام 2017 إلى نحو 107 أطنان سنوياً، في حين تراجع هذا الإنتاج عبر السنوات إلى نحو 6 أطنان فقط مع تجدد الحرب الأهلية عام 2023، مما يرسم صورةً لعبثية المشهد الاقتصادي في أرضٍ لم يكن ذنب سكانها سوى أنهم يقطنون بلداً مشبعاً بالثروات.
مقابر تعدين الذهب.. كوارث بشرية وبيئية
هل سألت يوماً كيف يتم استخراج الذهب بطريقةٍ تقليدية؟
نحو مليوني سوداني ينتجون 80% من الذهب في ولاية نهر النيل التي تتصدر إنتاج السودان عن طريق التعدين التقليدي، حيث يتم حفر التربة الحاملة للذهب ثم سكب مركبات الزئبق والسيانيد لاستخراج الذهب، وبعد تعريض هذا الخليط لعدة تفاعلاتٍ كيميائية يتم غالباً سكب النفايات شديدة السمية مباشرةً في الوديان والجداول، ما يؤدي إلى تلوثٍ شديد يتمثل بتشوه الأجنة ونفوق الحيوانات وبطلان صلاحية الأراضي الزراعية، وسط تكتّم الحكومة عن الإشارة إلى مخاطر السيانيد. وحال احتجاج السكان على التلوث الناجم عن تعدين الذهب يتم إما اعتقالهم أو قتلهم.
فمناطق تعدين الذهب تخضع لسيطرة أفرادٍ مسلّحين يقومون بشراء مخلفات تعدين الذهب ثم يُنشئون أحواضاً ويضيفون إليها السيانيد ويستخرجون ما بين 4 و5 كيلوغرامات من الذهب، ومن ثمّ يرمون المخلّفات قرب المناطق السكنية دون معالجتها، وذلك لتكلفتها المرتفعة. فالمعاناة لا تتمثل فقط في الاقتتال الحربي، بل أيضاً في التلوث البيئي والكيميائي.
ذهب الفاشر.. سبائك الدم
يقع شمال مدينة الفاشر عاصمة إقليم شمال دارفور غربي السودان، منجم جبل عامر الذي أشعل فتيل الحرب بعد اكتشاف مخزونٍ ضخم من الذهب فيه عام 2012 قد تصل قيمته إلى مليارات الدولارات. وتُعتبر الفاشر أيضاً عاصمةً تاريخية للإقليم إلى جانب كونها قاعدةً عسكرية متقدمة للقوات الحكومية.
وبحسب تقريرٍ لوكالة “رويترز”، وصل الإنتاج من جبل عامر إلى نحو 50 طناً من الذهب سنوياً في عام 2023، وهو ما يجعله ثالث أكبر منجم ذهبٍ في أفريقيا. ويتميز بأنه سطحي وتركيز الذهب فيه عالٍ، ومنطقة دارفور بصفةٍ عامة غنية بالمعادن كالحديد والمنغنيز والنحاس، وهذا ما جعلها أرضاً خصبة للاقتتالات الدولية تحت مظلة الصراع القبلي.
الأسبوع الماضي سيطرت قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر، آخر معقلٍ للجيش في منطقة دارفور. وذكرت منظمة الصحة العالمية أن 460 شخصاً قُتلوا في حادثةٍ واحدة فقط بمستشفى المدينة، ووصف شهود عيان عمليات إعدامٍ واسعة النطاق وعنفاً جنسياً استهدف مجموعاتٍ عرقية معينة وأدى إلى مقتل أكثر من 2000 مدني.
يشهد السودان الآن أسوأ أزمةٍ إنسانية في العالم؛ فقد قُتل مئات الآلاف منذ عام 2023، ونزح 12 مليون شخص، ويواجه 21 مليون شخص ما تُسميه الأمم المتحدة “مستوياتٍ عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد”، مع انقطاع الإمدادات الطبية والغذائية، وسط تحذيراتٍ من كارثةٍ إنسانية وشيكة.
فإلى متى سيبقى السودانيون رهينة الموت من حكومات غذّاها الطمع وسط صمتٍ مطبق من المجتمع الدولي؟
