ديناميكيات التجارة العالمية وخارطة الطريق للمصارف العربية
لمواجهة التحديات من الإضطرابات في البحر الأحمر
لا شك في أن الإضطرابات في البحر الأحمر تركت تأثيراً كبيراً على ديناميكيات التجارة الدولية، مما يطرح تحدّيات جديدة أمام الإقتصاد العالمي الذي لا يزال يتعافى من الصدمات منذ العام 2020، مثل جائحة «كوفيد-19»، والغزو الروسي لأوكرانيا، وإرتفاع التضخُّم، وتصاعد توترات الحرب في الشرق الأوسط. وفي هذا السياق، يعتبر الأمين العام لإتحاد المصارف العربية الدكتور وسام فتوح «أن الخطر الأكبر على الإقتصاد في العام 2024 يأتي من العوامل الجيوسياسية»، وتوجه الى المصارف العربية بـ «الدعوة إلى إتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة التحدّيات الجديدة التي تواجه الإقتصاد العالمي، ووضع إستراتيجية موحَّدة مبنيّة على رؤية واضحة للتطوُّرات العالمية المستجدة ومرتكزة على البيانات الموثوقة».
ويؤكد د. فتوح «أن المنطقة تزخر بالطاقات والموارد الغنية، ولن يتحقق فيها الإستقرار الدائم إلاّ من خلال إيجاد الحلول النهائية للصراع العربي – الإسرائيلي».
وتشير الدراسة التي قام بها صندوق النقد الدولي إلى أن إحتمال حدوث أزمة مصرفية يتزايد، إذا تعرَّض بلد لإضطرابات أمنية وسياسية. وتشير دراسة أعدَّها إتحاد المصارف العربية إلى وجوب تحوُّط السلطات المالية والمصرفية في الدول من مخاطر الصراعات في البلدان المجاورة، لأن الأنظمة المصرفية قد تعاني آثاراً سلبية غير مباشرة نظراً إلى أنها تعمل عبر الحدود. علماً أن الإضطرابات في البحر الأحمر لها تأثير على أسعار الطاقة. وستكون المناطق المستوردة للطاقة، بما في ذلك أوروبا، من المناطق الأكثر معاناة من الإضرابات في التجارة الدولية في البحر الأحمر. وقد يؤدي إرتفاع أسعار النفط والغاز إلى إستمرار التضخُّم مما يزيد من العراقيل أمام جهود البنوك المركزية لخفض التضخُّم.
على المصارف والسلطات في الدول العربية وضع إستراتيجيات مناسبة لمواجهة التحديات المتزايدة الناجمة عن الجغرافيا السياسية العالمية والجغرافيا السياسية للبحر الأحمر، وذلك يشمل:
- دعم زيادة الفرص أمام المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم للوصول إلى التجارة الدولية.
- الإستثمار في تحسين القدرات اللوجستية للتجارة الدولية وذلك بإنشاء مصرف إقليمي لتطوير البنية اللوجستية الأساسية، على غرار البنك الآسيوي للإستثمار في البنية الأساسية في الصين China’s Asian Infrastructure Investment Bank، لتعزيز القدرات التجارية الوطنية وتعزيز النمو الاقتصادي المستدام.
- دعم تطوير منطقة البحر الأحمر لتصبح مركزاً عالمياً آمناً ومستقراً ومتميّزاً في مجال تيسير التجارة.
- تعزيز العلاقات الإقتصادية في جميع أنحاء المنطقة العربية وإبتكار محرك جديد للنمو المالي بطرح أدوات مالية جديدة مبتكرة ولا سيما في مجال تسوية المدفوعات عبر الحدود.
- الإستثمار في مراكز البيانات العالمية وشركات عمالقة التكنولوجيا التي يمكنها توفير المعرفة التي يتم إستقصاؤها من البيانات الضخمة حول التجارة العالمية والمساعدة في رسم إستراتيجية مستقبلية مبنية على رؤية أوضح لآخر التطورات والتحدّيات العالمية.
- تطوير قواعد بيانات تدعم المؤسسات في الوصول إلى تحليل المخاطر بطريقة مستقلة ومحايدة مما يساعد في فهم المخاطر وتخفيفها بطريقة فعّالة من حيث التكلفة ومستدامة وآمنة.
- بناء قواعد بيانات ضخمة حول الطرق التجارية التي يمكن أن تساعد المؤسسات في إختيار الطريق البحري المناسب لتسيير التجارة To Sea or not to Sea. إن الوصول إلى طرق التجارة الدولية هو التحدّي الأكبر اليوم. وينبغي تطوير المزيد من قواعد البيانات التي تتيح الوصول إلى المعرفة حول طرق التجارة والمخاطر المرتبطة بها.
- دعم الإبتكار التكنولوجي في مجالات عدّة مثل الذكاء الإصطناعي والواقع المعزّز لنمذجة طرق التجارة الدولية ومخاطرها.
في ما يلي، لمحة موجزة حول ديناميكيات التجارة العالمية، بما في ذلك طرق وشبكات التجارة الرئيسية، ومصادر بيانات التجارة العالمية، وسياسات التجارة العالمية. ونسلط الضوء على جيوسياسية البحر الأحمر وأهمية البحر الأحمر في التجارة العالمية وتداعيات الإضطرابات الامنية التي شهدها البحر الأحمر والتي وضعت تحديات جديدة أمام الاقتصاد العالمي.
ديناميكيات التجارة العالمية
تقوم التجارة العالمية على تبادل السلع والخدمات بين البلدان، وتتكوَّن من إجمالي الواردات والصادرات لكل دولة مشاركة. وتعتمد على العرض والطلب لتحديد سعر كل منتج أو خدمة يتم بيعها مع التدخل الحكومي في بعض الأحيان. وفقاً لكتاب حقائق العالم الصادر عن وكالة الاستخبارات المركزية في الولايات المتحدة Central Intelligence Agency CIA World Factbook، فإن السلع الأكثر تداولاً في التجارة العالمية هي:
- الآلات الكهربائية – بما في ذلك أجهزة الكومبيوتر (14.8%)
- الوقود المعدني – (14.4%)
- المفاعلات النووية – (8.9%)
- المركبات – (8.9%)
- الأجهزة العلمية والدقيقة – (3.5%)
- البلاستيك – (3.4%)
- الحديد والصلب – (2.7%)
- المواد الكيميائية العضوية – (2.6%)
- المنتجات الصيدلانية – (2.6%)
- الأحجار الكريمة – (1.9%)
التجارة العالمية لها فوائد كثيرة على الإقتصاد العالمي فهي تحفز النمو الإقتصادي على الصعيد العالمي، وتساعد في تحسين الأداء المالي وزيادة المبيعات، وتوزيع المخاطر، وزيادة المنافسة. إلاَّ أن التجارة العالمية تعترضها تحدّيات كبيرة منها المخاطر السياسية، ومخاطر سعر الصرف، وتفاوت ثقافة الدول، ومخاطر سرقة الملكية الفكرية.
تصاعد دور الصين في شبكة التجارة العالمية
في إطار مبادرة الحزام والطريق Belt and Road، شهدت ديناميكيات التجارة الدولية تحوُّلات طويلة المدى مع تصاعد دور بعض الدول ومع تطور شبكات التجارة العالمية. ومن أبرز العوامل التي أدَّت الى هذه التحولات:
- تطوُّرات السياسة والإقتصاد العالمي.
- تطوير التكنولوجيا الرقمية للتجارة العالمية.
- صعود الدول النامية مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا. فقد أصبحت هذه البلدان مؤخراً مراكز تجارية إقليمية.
- صعود الصين كمركز لأكبر كتلة تجارية عالمية.
شبكات وطرق التجارة العالمية
إن شبكات وطرق التجارة العالمية لها تأثير كبير على التبادلات الإقتصادية للدول. وتتأثر شبكات التجارة العالمية بعوامل هيكلية واقتصادية وجغرافية وسياسية وثقافية. يعتمد جزء كبير من التجارة العالمية على النقل البحري وطرق الشحن. ووفقاً للمنظمة البحرية الدولية International Maritime Organization IMO، يعتمد حوالي 90% من التجارة العالمية على طريق النقل البحري للبضائع.
وأهم خمسة طرق ملاحية للتجارة العالمية هي:
- قناة بنما (بين آسيا والولايات المتحدة الولايات المتحدة): تُعد قناة بنما أهم طريق تجاري بين آسيا والولايات المتحدة.
- قناة السويس (بين آسيا وأوروبا): تُعد قناة السويس أشهر طريق بحري في العالم، وهي أسرع وأقصر طريق للسفر بين آسيا وأوروبا عبر البحر الأحمر (المحيط الأطلسي والمحيط الهندي).
- القناة الإنكليزية (بين أوروبا والمملكة المتحدة البريطانية): تربط القناة الإنكليزية بحر الشمال بالمحيط الأطلسي. إنها حلقة وصل أساسية للتجارة بين أوروبا والمملكة المتحدة البريطانية وأميركا الشمالية.
- المضائق الدنماركية (بين روسيا وأوروبا): تربط المضايق الدنماركية بحر البلطيق، وتتكوَّن من ثلاث قنوات. أوريسند، الحزام الكبير، والحزام الصغير هي القنوات الثلاث التي تربط بحر البلطيق ببحر الشمال.
- مضيق ملقا Strait of Malacca (من وإلى آسيا): يُعد مضيق ملقا طريقاً ملاحياً هاماً من وإلى آسيا. وهو يشكل الممر الأكثر جوهرية ومركزية بين المحيطين الهندي والهادئ. إنه طريق شحن مهم، لأنه يربط بين العديد من أكبر الإقتصادات في آسيا بما في ذلك الهند والصين واليابان ودول آسيوية أخرى.
أبرز مؤشرات التجارة العالمية
وفقاً للتقرير حول أحدث تطورات التجارة العالمية الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية الأونكتاد Global Trade Update by United Nations Conference on Trade and Development UNCTAD في ديسمبر (كانون الأول) 2023، فقد تقلصت التجارة العالمية بنسبة 5% في العام 2023. وإنخفضت التجارة العالمية في السلع بنحو 2 تريليون دولار في العام 2023، لكن التجارة في الخدمات توسعت بمقدار 500 مليار دولار.
وكان أداء الصادرات من البلدان النامية ضعيفاً، وإنخفضت التجارة بين بلدان الجنوب بشكل حاد، وظلّت التجارة في شرق آسيا أقل من المتوسط. إن الإتجاهات الجيوسياسية، بما في ذلك تراجع الإعتماد التجاري المتبادل بين الصين والولايات المتحدة، لها تأثير متزايد على التجارة العالمية.
ولا يزال نمو التجارة ضعيفاً مما يشير إلى إستمرار التحديات. إن التوقعات لعام 2024 غير مؤكدة ولكنها متشائمة بشكل عام.
سياسة التجارة العالمية
منظمة التجارة العالمية World Trade Organization (WTO) هي المنظمة الدولية العالمية التي تضع قواعد التجارة بين الدول. وفي جوهرها توجد إتفاقيات منظمة التجارة العالمية، التي تم التفاوض في شأنها وتوقيعها من قبل الجزء الأكبر من الدول التجارية في العالم لضمان تدفق التجارة بسلاسة، وبشكل يمكن التنبؤ به وبحرية قدر الإمكان.
تقوم منظمة التجارة العالمية بالعديد من الأدوار فهي تدير نظاماً عالمياً لقواعد التجارة، وتعمل كمنتدى للتفاوض على الاتفاقيات التجارية، وتقوم بتسوية النزاعات التجارية بين أعضائها وتدعم إحتياجات البلدان النامية.
البيانات حول التجارة العالمية
تتوفر مصادر بيانات مختلفة حول التجارة العالمية، وتشمل:
- قاعدة بيانات اتجاه إحصاءات التجارة التابعة لصندوق النقد الدولي Direction of Trade Statistics (DOTS) database by the International Monetary Fund (IMF) وهي توفر إحصاءات عن قيمة صادرات وواردات البضائع مصنفة وفقاً للقيمة الأساسية للبلد والشركاء التجاريين.
- إحصاءات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية الأونكتاد United Nations Conference on Trade and Development UNCTAD statistics on world trade.
- موقع أطلس التجارة Tradeatlas.com الذي يوفر أحدث المعلومات حول المستوردين للشركات التي تهدف إلى إقامة اتصالات تجارية في الأسواق الدولية ومراقبة عملائها ومنافسيها.
- موقع حلول التجارة العالمية المتكاملة World Integrated Trade Solutions الذي يُوفر بيانات حول تجارة البضائع (الصادرات والواردات)، والبيانات التعريفية وغير الجمركية tariff and non-tariff (NTM)، ومعلومات حول التعريفات الجمركية، وتحليل القدرة التنافسية التجارية.
جيوسياسية البحر الأحمر
يُعد البحر الأحمر، باتصاله بقناة السويس، أحد أكثر الممرّات الملاحية إزدحاماً في العالم. ويتأثر بالإستقرار السياسي والإقتصادي في العديد من البلدان.
يتمتع البحر الأحمر بأهمية إستراتيجية كبيرة، حيث يقع بين قارتي آسيا وأفريقيا، ويفصل بين الشرق الأوسط والشرق الأقصى، كذلك بين أوروبا وآسيا.
إن الموقع الجيوسياسي للبحر الأحمر مهم لأنه حدود طبيعية بين الساحل الشرقي لإفريقيا والساحل الغربي لشبه الجزيرة العربية وطريق حيوي لنقل النفط غير المسلح عبر باب المندب. ولطالما يظل النفط مصدر الطاقة الرئيسي للعالم، فإن هذا الممر الملاحي سيظل قناة حيوية لنقل النفط من الخليج.
يتمتع البحر الأحمر بأهمية إقتصادية متزايدة نتيجة لإحتياطيات النفط الكبيرة في جميع أنحاء المنطقة وموارد المعادن الثمينة. تم إكتشاف كميات هائلة من الزنك والنحاس والفضة والذهب وعناصر مثل الكادميوم والكوبالت والهيدروكربونات في الأعماق المعزولة للبحر الأحمر. وتًعد الملاحة الحرة عبر البحر الأحمر أمراً بالغ الأهمية للتجارة العالمية والتواصل مع آسيا وأفريقيا.
باعتباره طريقاً للتوابل قبل أن يصبح شرياناً للنفط الخام، كان للبحر الأحمر أهمية إستراتيجية بالنسبة إلى الغرب عبر العصور. وتعتمد الولايات المتحدة على نفط الخليج العربي المنقول عبر البحر الأحمر لتشغيل مصانعها ومنازلها والحفاظ على الإقتصاد الأميركي.
وتُعد قناة السويس أيضاً طريقاً سريعاً وفعَّالاً لروسيا لدعم أصولها العسكرية في المنطقة. ويُعتبر الوصول إلى البحر الأحمر ضرورياً لروسيا، لأنه رابط بحري بين أوروبا وأقصى شرق روسيا. إنه طريق حيوي للتجارة والشحن وصيد الأسماك.
إن البحر الأحمر هو بمثابة مركز رئيسي في العالم العربي على المستويين الوطني والجغرافي. نظراً إلى أن البحر الأحمر هو طريق التصدير الرئيسي للنفط العربي، فهو أيضاً ذو أهمية كبيرة لاقتصاداتها حيث يمثل 93-100% من إجمالي صادرات بعض الدول العربية.
آثار الإضطرابات في البحر الأحمر على سلسلة التوريد العالمية
إن الإضرابات الأمنية في البحر الأحمر تؤدي إلى تعطيل سلاسل التوريد العالمية. ويشكل غياب البنية اللازمة لإدارة الأولويات الأمنية المشتركة عبر البحر الأحمر تحدياً كبيراً. لقد إتخذت العديد من شركات الشحن الكبرى قراراً بوقف الشحن عبر البحر الأحمر. وتستخدم بعض الشركات طريقاً جديداً لنقل البضائع عبر المحيط الهندي مما يؤدي الى تأخير الشحن ويضيف أكثر من مليون دولار إلى تكاليف النقل. وبالتالي يؤدي الوقت الإضافي والنفقات الإضافية للنقل إلى رفع أسعار الوقود وتوافر السلع.
آثار الإضطرابات في البحر الأحمر على التضخم
إن إرتفاع تكاليف الشحن وتأخير الشحن يشكل خطراً جديداً على التضخُّم العالمي. لقد أدت الإضطرابات الأمنية في البحر الأحمر إلى زيادة مخاوف أكبر شركات الشحن في العالم وشركات النفط العملاقة. إن العواقب الوخيمة للإضطرابات التجارية سيكون لها تأثير كبير على الإقتصاد العالمي وقد تزيد من حجم التضخم في أوروبا وفي جميع أنحاء العالم.
إن الإنعكاسات السلبية على شحنات النفط والغاز الطبيعي السائل وإمدادات الطاقة الأخرى، كذلك المنتجات الغذائية مثل زيت النخيل والحبوب ومعظم المنتجات المصنعة في العالم سيؤدي إلى إرتفاع أسعار السلع والخدمات وبالتالي رفع مستوى التضخم.
آثار الإضطرابات في البحر الأحمر على القوى الجيوسياسية
نظراً إلى التهديدات الشاملة للإستقرار في البحر الأحمر ودوله الساحلية، تتحرّك القوى الدولية لتعزيز وجودها العسكري في المنطقة. هناك أكثر من إثنتي عشرة منشأة بحرية تديرها أكثر من 11 دولة في منطقة البحر الأحمر، مع العديد من القوات البحرية الأخرى، بما في ذلك البحرية الروسية، التي تتمتع بحقوق التمركز في موانئ مختلفة.
آثار الإضطرابات في البحر الأحمر على طرق التجارة الدولية
يسعى المصدّرون جاهدين لإيجاد طرق بديلة، سواء عن طريق الجو أو البر أو البحر، لتوصيل السلع الإستهلاكية الرئيسية إلى تجار التجزئة، عقب الإضطرابات الأمنية في البحر الأحمر.
لقد أدت الإضطرابات في البحر الأحمر إلى تعطيل الطريق التجاري الرئيسي الذي يربط أوروبا وأميركا الشمالية بآسيا عبر قناة السويس، كما إرتفعت تكاليف شحن الحاويات. وتتطلّع الشركات إلى نقل بضائعها عبر طرق بحرية بديلة، أطول في كثير من الأحيان. ويكلف نقل البضائع عن طريق الجو ما يقرب من 5 إلى 15 مرة أكثر من نقلها عن طريق البحر.