الشمول المالي في لبنان: شرايين نظيفة لاقتصادٍ يتنفّس
(الجمهورية)-24/11/2025
البروفيسور حسن الموسوي*
حين تتراجع الثقة بالقنوات الرسمية وتتسع المعاملات النقدية اليدوية، يقدّم الشمول المالي (Financial Inclusion) مدخلاً عملياً لإعادة تدفّقات المال إلى مسارها الطبيعي.
لتحويل المبادئ إلى أفعالٍ قابلة للقياس، يلزم مسارٌ زمني واضح لعامٍ ونصف ينطلق من البنية الدفعية ويتدرّج إلى سائر المكوّنات. يبدأ التنفيذ بتشغيل منصّة مدفوعات وطنية فورية برسوم شبه معدومة وملكية تنظيمية عامة وواجهات مفتوحة، وتُبنى عليها سائر الخدمات.
ولتتّسع منفعة المنصّة الفورية بسرعة خارج المدن، يُعتمَد معيار قبول وطني واحد، يوحّد طريقة الدفع من الحساب إلى الحساب لدى جميع المصارف والمحافظ، من غير حاجة إلى عقود ثنائية متفرّقة. يقوم المعيار على رمزٍ موحّد سريع للدفع يعمل في كل نقاط القبول، ويستند إلى سجلّ وطني للأسماء المستعارة، يربط رقم الهاتف أو الرقم الضريبي بالحساب، فتُنجَز الدفعات بالحفظ لا بالأرقام الطويلة. ويُعزَّز الانتشار عبر تسعير تفضيلي للمدفوعات الصغيرة خلال فترة انتقالية، فلا تتجاوز كلفتها حدًّا رمزيًّا، وتُعفى المعاملات الأولى شهريًّا للتجّار الصغار، على أن تُموَّل الحوافز من رسوم مقاصة مخفّضة تُمنح للمشاركين في المعيار. ويُختبَر بالتوازي قبول بلا اتصال عبر الرسائل القصيرة، أو رموزٍ تُزامَن لاحقًا متى توافرت الشبكة، حتى لا تتوقّف الخدمة مع انقطاع الكهرباء أو ضعف الاتصال. بهذه الحزمة التقنية والتنظيمية يتشكّل قبولٌ عام يشبه المرفق، فتختفي مسارب الرسوم المزدوجة، وتتّسع شبكة القبول خارج المدن، ويغدو الدفع من الحساب إلى الحساب عادةً يومية لا استثناءً عابرًا.
يلي ذلك فتح حساب منخفض الكلفة لكلّ مقيم مؤهّل، يُدار بشفافية ومن دون رسوم مفاجئة أو حدود غامضة. وتنتقل التحويلات الاجتماعية ورواتب فئات محدّدة إلى القنوات الرقمية، ثم تُستكمل بجباية الرسوم والخدمات العامة على المنصّة نفسها.
تمكين المحافظ الإلكترونية وشبكات الوكلاء خارج المدن: تمنح التراخيص سريعًا، وتُحدَّد معايير الأمن والحماية، وتنتشر نقاط القبول في القرى والضواحي. وتُعلن الأسعار، وتُعاقَب الممارسات المضلّلة، وتحسم النزاعات بسرعة عبر مسارٍ مؤسسي.
يتولّى مجلس تنسيقي يضمّ المصرف المركزي والوزارات والهيئات والقطاع الخاص والمجتمع المدني، نشر مؤشرات أداء ربع سنوية تشمل نسبة الحسابات النشطة وحجم المدفوعات الفورية وفجوات الشمول بحسب النوع والعمر والمناطق وتمويل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
وتُوفَّر قنوات تحويل منخفضة الكلفة تربط تحويلات المغتربين مباشرة بالحسابات والمحافظ بدل النقد المتناثر. وبالتوازي تُبرم شراكات مع منصّات التحويلات العالمية، فتنخفض الرسوم إلى مستوى تنافسي إقليمي، وتُحوَّل المبالغ مباشرة إلى الحسابات والمحافظ بدل النقد المتناثر.
وتتكيّف الإجراءات مع اشتراطات الجهات المانحة لتمرّ المساعدات عبر القنوات الرقمية بلا التفافات نقدية، مع تبسيط «إعرف عميلك» للمغتربين والعمال، عبر حدودٍ واضحة للمخاطر والتزامٍ صارم بقواعد مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
وتُمنَح تسهيلاتٌ ضريبية محدّدة زمنيًّا للأعمال الصغيرة والمتوسطة، التي تنتقل كلِّيًا إلى الدفع الرقمي، وتُحوَّل بيانات المدفوعات إلى تقارير ائتمانية مبسّطة تراعي الخصوصية، لتختبر المصارف تمويلًا متناهي الصغر مبنيًّا على السلوك الفعلي لا على التخمين.
عدّاد عملي للتنفيذ (من دون بيروقراطية ثقيلة):
- 1-3 شهر: إقرار الإطار التشغيلي للمنصة الفورية؛ إطلاق «الحساب الأساسي»؛ اعتماد نموذج اعرف عميلك مبسّط للفئات منخفضة المخاطر؛ بدء تجريب المدفوعات الحكومية لبرامج اجتماعية محددة.
- 4-6 شهر: تعميم قبول المدفوعات لدى الجهات العامة والخدمات الأساسية؛ فتح واجهات المنصة أمام المصارف والتكنولوجيا المالية؛ نشر أول تقرير علني بمؤشرات الأداء.
- 7-12 شهر: توسيع شبكة الوكلاء خارج المدن؛ ربط دفعات حكومية إضافية؛ إطلاق برنامج حماية مستهلك مع خط شكاوى فاعل؛ بدء شراكات تحويلات مع قنوات المغتربين.
- 13-18 شهراً: تقييم مستقل لخفض الرسوم؛ اختبار منتجات ائتمان متناهي الصغر مرتبطة بسلوك المدفوعات؛ إدماج التأمين الميكروي؛ مراجعة تشريعية لسدّ الثغرات.
كيف نضمن السلامة من دون خنق الابتكار؟
التحدّي أن نحمي النظام من غسل الأموال والاحتيال من غير قتل السرعة والسهولة. الحلّ ليس في «أوراق أكثر»، بل في استهداف أمثل للمخاطر:
- تعريف الهوية بأسلوبٍ متدرّج يتناسب مع حجم التعامل، ومع درجة المخاطر بحسب الجغرافيا والقطاع. وتقوم الهوية الرقمية على مبدأ «الحدّ الأدنى الكافي» من البيانات، مع قانونٍ واضح لحماية الخصوصية يضبط النفاذ إلى المعلومات ويُقنّن استعمالها، حتى لا يتحوّل الشمول المالي إلى باب رقابةٍ على الأفراد.
- حدود معاملات يومية وشهرية قابلة للضبط للمحافظ الأساسية.
- الاعتماد على أنظمة كشف الاحتيال القائمة على الأنماط، بدل القواعد الواضحة – مطابقة «حرْفية» – قد يؤدّي إلى تعطيل العمليات المشروعة وإرباك النظام إذا لم يضبط جيداً.
- تعاون استخباري مالي سريع بين المصرف المركزي والجهات الأمنية، يُمسك «الكبار» بدل إرهاق «الصغار».
- وضع خطط تعافٍ من الكوارث لمنصّة المدفوعات والشبكات المصرفية مع تجارب دورية وإعلانٍ منتظم لمعدّلات الجاهزية والانقطاع حتى تبقى الخدمة متاحة في أسوأ سيناريوهات الكهرباء والاتصال.
من الخصومة إلى الشراكة
يُصوّر أحيانًا أنّ المحافظ الرقمية والتكنولوجيا المالية ستأكل «خبز» المصارف، غير أنّ الصورة المعاكسة أدقّ؛ فكلّما اتّسعت المدفوعات اتّسعت معها كعكةُ الخدمات للجميع. والمصرف الذي يُعيد تعريف دوره من «خزّان ودائع» إلى «ميسّر ائتمان» يكسب زبائن ويولّد لديه مجالًا لمنتجات جديدة، من أمثلتها التمويل القصير الأجل للتجّار الصغار المبني على تدفّقاتهم الفعلية، وتمويل الفواتير، وتحويل التحصيل إلى عمليةٍ ذكية قابلة للأتمتة، وشراكات مع تقنيات التأمين (Insurtech) لتقديم تأمينات متناهية الصغر. وحين تتّسع السوق تسع الجميع.
ماذا نقيس… وكيف نعرف أنّ العجلة دارت؟
ثلاثة مؤشرات تكفي لتمييز الأثر الحقيقي من الضجيج. المؤشر الأوّل هو نسبة الحسابات النشطة لا عدد الحسابات المفتوحة، فالعِبرة في الاستعمال. والمؤشّر الثاني هو حجم المدفوعات الفورية للفرد والمتجر واتّساع شبكة القبول خارج بيروت والمدن الكبرى. أمّا المؤشّر الثالث، فهو انكماش فجوة الشمول لدى النساء والشباب والأطراف.
الشمول والضرائب… العلاقة الحسّاسة
لا يكفي أن «تَرى» الدولة حركة المال؛ بل عليها أن تحترم ما تراه. الشمول المالي ليس ذريعةً لفرض جباية متعجّلة تُخيف الاقتصاد الناشئ من القنوات الرسمية. الضرائب يجب أن تتدرّج مع توسّع القاعدة، وأن تُحافِظ على تنافسية الأعمال الصغيرة. الثقة الضريبية مثل الثقة المصرفية: تُكتسب بالتدرّج والإنصاف، لا بالصدمة.
درس من الخارج… لكن بعيونٍ محلية
لا ينبغي نسخ التجارب حرفيًا، بل تُستخلص منها القواعد العامة. من منصّة المدفوعات الهندية الموحّدة (UPI) نستعير فكرة «المرفق العام» للمدفوعات بتسعير منخفض وحيادٍ في الوصول، ومن بيكس البرازيل (Pix) نأخذ البساطة وسرعة الانتشار، ومن إم-بيسا الكينية (M-Pesa) نستلّ قوة شبكات الوكلاء وقدرتها على ردم الفجوات الجغرافية. أمّا الطابع اللبناني فيملي واقعيته؛ الكهرباء متقطّعة، الاقتصاد غير الرسمي واسع، تحويلات الخارج كثيفة، والتنوّع السكاني والمناطقي حاضر بقوّة. ومن ثمّ تُبنى المنظومة خفيفة الأثر على البنية، وتتسامح عند الحاجة مع خصائص من دون اتصال، وتضع دفعات الحكومة وتحويلات المغتربين في المقدّمة بوصفهما رافعتين سريعتي المفعول لبناء «كتلة حرجة» من الاستخدام.
*أستاذ جامعي وخبير في الشؤون المالية والاقتصادية
