دكتور وسام فتوح
مطلوب تطوير إطار عربي موحّد لتقييم مخاطر تمويل الإرهاب
يشهد النظام المالي العالمي تحوّلاً جذرياً في فهم إدارة الإلتزام ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، إذ لم يعد الإمتثال مجرد إستجابة لمتطلّبات رقابية، بل أصبح جزءاً من إستراتيجية الحوكمة المؤسسية وأداة لتعزيز الثقة والإستقرار.
ومع التطوُّر التشريعي والتقني المتسارع، تبرز أهمية بناء برامج إمتثال قائمة على الفعّالية، تُقاس بقدرتها على الوقاية والإكتشاف لا بعدد التقارير أو السياسات المكتوبة. ويُعدُّ هذا التحوُّل ضرورة ملحّة للمصارف العربية الراغبة في تعزيز موقعها في النظام المالي الدولي، إذ إن التكيُّف مع المعايير العالمية لم يعد كافياً ما لم يُترجم إلى أداء ملموس ونتائج قابلة للقياس.
ويتطلّب بناء بيئة إمتثال عربية متطوّرة، الجمع بين الرقابة الوقائية والإبتكار المالي، وصولاً إلى نموذج متكامل من الإمتثال الذكي القائم على البيانات والتحليل الإستباقي. ولتحقيق ذلك، من المهم أن تُعزّز المصارف الشفافية الداخلية، وأن تستثمر في الكفاءات المتخصّصة، وأن تطوّر ثقافة مؤسسية تجعل من الإلتزام سلوكاً يومياً وليس إلتزاماً إدارياً عابراً. كما ينبغي توسيع التعاون الإقليمي لتوحيد الجهود في مواجهة المخاطر العابرة للحدود وبناء مؤشرات قياس عربية لفعّالية الإمتثال.
ولكي يتحقق هذا التوجُّه، يُستحسن أن تُنشأ آلية عربية دائمة لتبادل المعلومات والخبرات بين وحدات الإمتثال والمصارف المركزية، وأن تُعتمد حلول رقمية متقدمة في الرصد والتحليل بإستخدام الذكاء الاصطناعي والتحليلات الرسومية ضمن أطر حوكمة شفّافة. كما يتعيّن الإستثمار المستمر في تدريب الكوادر المصرفية على تحليل المخاطر وتمييز الأنماط غير التقليدية للمعاملات المالية، ودمج الإمتثال ضمن الخطط الإستراتيجية للمصارف بوصفه مكوّناً من مكوّنات الأداء المؤسسي، إلى جانب تطوير إطار عربي موحّد لتقييم مخاطر تمويل الإرهاب يُراعي الخصوصيات المحلية والإقليمية.
ولا شك في أن إدارة المخاطر لم تعد مجرد وظيفة فنية متخصّصة، بل أصبحت ثقافة مؤسسية شاملة تتغلغل في عمق الهيكل المصرفي، وتؤثر على جميع مستوياته التشغيلية والإستراتيجية، بما يُعزّز قدرة المصارف على التعامل مع بيئة التحديات المتشابكة والمتزايدة. فالمنطقة العربية تشهد تصاعداً غير مسبوق في المخاطر السياسية والصراعات، ما يُلقي بظلاله الثقيلة على القطاع المصرفي والبيئة الإستثمارية ككل، ويُهدّد بشكل مباشر إستقرار الأنظمة المالية.
وفي هذا السياق، نحذر من ظاهرة تزايد مستويات الدين العام في العديد من الدول العربية، والتي بدأت تُشكّل ضغطاً متزايداً على القطاع المصرفي والإقتصاد الكلي معاً، إذ إن معدّلات الدين العام إرتفعت بشكل مطّرد في السنوات الأخيرة لتتجاوز في بعض الحالات 100 % من الناتج المحلي الإجمالي، بل وصلت إلى مستويات تقارب أو تفوق 150 %، وهو ما يدق ناقوس الخطر حيال الإستدامة المالية في المنطقة.
في المحصّلة، نجدّد الدعوة إلى ضرورة مواجهة التحدّيات الناجمة عن صعود المنصّات المالية اللامركزية، في ظل غياب الأطر التنظيمية الواضحة، وما تثيره هذه الكيانات من مخاطر تتعلق بالشفافية ومكافحة غسل الأموال وحماية المستهلك، ونذكّر بإلتزام إتحاد المصارف العربية دعم إدارات المخاطر في المصارف الأعضاء من خلال تعزيز المعرفة والتدريب وخلق منصّات للحوار وتبادل الخبرات، كذلك الدعوة إلى المزيد من التعاون بين المصارف والسلطات الرقابية لتحقيق التوازن بين متطلّبات الإمتثال وضرورات الإبتكار.
