ما لم يقله رياض سلامة.. من تمويل النظام السوري إلى خفايا الهندسات المالية!
(العربية)-05/12/2025
*محاسن مرسل
قدم رياض سلامة دفوعًا للرأي العام عن مرحلة استئثاره بالسلطة النقدية في لبنان، في هذه المرة استعمل مصطلحات بالسياسة كان يتجنبها سابقًا كالثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر الذين حملهم مسؤولية انهيار البلاد.
أصاب وأخطأ في التوصيف، لأنه كان مهندس التفليسة والحاكم بأمره والممول الدائم في ظل نضوب العملة الخضراء.. كان دائما يجد الحل للحكومات المتعاقبة وكأنه يشيد قصر وهم الاستقرار لتسكن الطبقة الحاكمة بأريحية وتنعم بإنفاق أموال المودعين.. فهو انتهك قانون النقد والتسليف حدّ الثمالة، وما أخذه من إجراءات ما كانت إلا مراكمة لخسائر على حساب أموال المودعين التي حولها من دولارات نقدية إلى موجودات داخلية. هذه الفقاعة التي عاش وعيّش النظام الاقتصادي فيها، غذاها بمخالفات مست بسلامة الاقتصاد وسلامة النقد وسلامة القطاع المصرفي، وصولاً إلى خرق قانون قيصر، وتغذية نظام الأسد. ما فعله سلامة بصفته حاكمًا بأمر المال ومهندسًا للسياسة المالية للسلطات المتعاقبة رفضه من حكم قبله أي إدمون نعيم ومن أتى بعده، من مرحلة تولي وسيم منصوري منصب الحاكمية بالإنابة إلى كريم سعيد حاليًا المتسمك بحرفية نص قانون النقد والتسليف، الرافض لكل البهلوانات المحاسبية التي حصلت سابقًا.
ما لم يقله رياض سلامة والذي لا نملك عليه إجابة واضحة حتى الساعة، هو أنه في الوقت الذي خلق فيه تعددية سعر الصرف، وتدخل في السوق شاريًا للدولار، ما ضغط على الليرة وجعلها في حالة من الذوبان غير المسبوق حيث تجاوزت خسارتها أكثر من 90%، ما أغرق المقيمين في البلاد بفقر مدقع تجاوز نسبة 82%، بحسب الإسكوا. فهو منح بداية العام 2020، المصارف أو مجموعة منها 8 مليار دولار، ما يساوي آنذاك 39% من مجموع السيولة الخارجية بالعملات الأجنبية التابعة للمصرف المركزي في لبنان. وهو الذي حجب الدولارات عن المودعين، و”ليلر” الودائع في عملية تذويب لخسائر القطاع المصرفي استمرت حتى صيف 2023، لحظة خروجه من الحاكمية، عندها توقفت السحوبات بالليرة اللبنانية ليستعاض عنها بسحوبات شهرية بمبالغ ضئيلة بالدولار الأميركي.
ما لم يجب عنه رياض سلامة هو أنه في العهد الذي حُرم فيه المودعون من أموالهم الدولارية، لماذا وافق مع الحكومات المتعاقبة على إنفاق 22 مليار دولار على الدعم ممّا تبقى من أموال المودعين الموجودة في المصرف المركزي على شاكلة ضخ أموالٍ للصرافين وشراء محروقات ومواد غذائية وقمح وأدوية ومستلزمات طبية، علمًا أن نواب الحاكم دأبوا، وفي كتب موجهة إلى وزارة المال منذ العام 2022 على التحذير من خطورة الدعم وعدم صلاحيته. هذا الدعم الذي غذّى نظام الأسد بالدولار النقدي وبكل المواد التي ذكرناها حيث كانت الشاحنات المحملة تُنقل بمواكبة أمنية شاهدها الناس بأم العين، وخاصة المحروقات. كيف له أن يتذرع بأنه أُرغم على ذلك بينما كان يتدخل بالسوق طابعًا لليرة ليشتري دولارات ويضارب على الليرة ويستمر في الدعم. وكان يعلم أن قانون قيصر قد دخل حيز التنفيذ، وأن نظام الأسد يتنفس من خلال الاقتصاد اللبناني. وبالحد الأدنى ألم يعلم أنَّ سوق الصيرفة في البقاع والضاحية وطرابلس تحول إلى ماكينة للمّ الدولارات للسوريين في تموز من العام 2020. ولماذا لا يقدم إخبارًا أو معلومات مسهل تساعد في تطبيق أحكام القانون 240، المتعلق بإخضاع المستفيدين من دعم الحكومة بالدولار الأميركي للتدقيق الجنائي الصادر في العام 2021.
تقرير الفاريز آند مارسال.. مصرف لبنان أشبة بدكان
يشير رياض سلامة إلى أن سياساته المالية هي التي حافظت على استقرار العملة، لكن تقارير التدقيق الجنائي لألفاريز آند مارسال تروي قصة مختلفة.
يستند هذا الادعاء إلى تقرير مفصّل يصل حجمه إلى 332 صفحة، مُقسّم إلى 14 باباً، يشرح بإسهاب العمليات المحاسبية والمصرفية والإدارية المعقّدة التي تثبت – بحسب التقرير – مسؤولية سلامة عن إدارة منظومة مالية ضخمة شجّعت النمو الاقتصادي الظاهري عبر إعادة تصنيف الديون والخسائر المتراكمة ومعاملتها كما لو كانت أرباحاً مستقبلية.
واعتمد مصرف لبنان في إعداد بياناته المالية معايير محاسبية “غير تقليدية”، وهي ممارسة موجودة عالمياً بين بعض البنوك المركزية، لكنها عادة ما تخضع لمعايير بديلة واضحة ومحددة، وهو ما افتقرت إليه المعايير التي استخدمها مصرف لبنان. وقد أتاحت هذه الممارسات نشر بيانات مالية تفتقر للشفافية وإخفاء معلومات جوهرية. وتستند هذه المعايير إلى “الدليل المحاسبي” الخاص بالمصرف، الذي يحصل على موافقة المجلس المركزي، وقد خضع لتعديلات متعدّدة، كان أبرزها في عامي 2016 و2018.
ومن أبرز الإجراءات غير التقليدية التي ينسبها التقرير إلى المصرف:
– تأجيل تكاليف الفوائد لتعزيز أرباح القوائم المالية بشكل وهمي.
– إنشاء حسابات لأرباح سك العملة بهدف تغطية الخسائر المؤجّلة وزيادة الربحية الظاهريّة.
– تضخيم قيمة سندات الدين الحكومي بعدم احتساب الانخفاض في قيمتها الحقيقية.
– تسجيل تقلبات غير محققة في قيمة الذهب ضمن الميزانية، مما أدى إلى تشويه قيمة أصول المصرف ورأس ماله.
– مقاصّة ديون وزارة المالية لمصرف لبنان بالدولار مقابل ودائع الخزينة، مما أدى إلى تقليص قيمة الموجودات والمطلوبات في الميزانية.
– مقاصّة القروض والودائع المصرفية بموجب عقود أسفرت عن انخفاض في قيمة الموجودات والمطلوبات.
عن الهندسات المالية أو الثقب الأسود
وفي منحى مثير، تحوّل فائض العملات الأجنبية لدى مصرف لبنان من 7.2 مليار دولار نهاية 2015 إلى عجز هائل بلغ 50.7 مليار دولار مع نهاية 2020. وقد نتج هذا التحوّل عن ارتفاع الودائع بالعملة الأجنبية بنسبة 119%، تمّ تمويلها عبر عمليات “الهندسة المالية”، في حين تراجعت الأصول الأجنبية الفعلية بنسبة 18%. ويشير التقرير إلى أن هذه العملية تمثّلت في جذب الودائع من الخارج وتحويلها إلى أصول محليّة. وتشكّل نسبة متعاظمة من الأصول الأجنبية أصولاً محليّة، وإذا ما طُلبت استعادتها، فستُحدث ضغطاً هائلاً على الدولة والاقتصاد والشعب اللبناني. وبلغت الفجوة في احتياطي العملة الأجنبية 71.9 مليار دولار نهاية 2020، مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي البالغ 31.2 مليار دولار، أي ما يعادل 230% من الناتج المحلي.
جاء في وثيقة صادرة عن مديرية الشؤون القانونية في مصرف لبنان، وُجهت إلى الحاكم في 4 مارس/آذار 2017، أن دور المصرف، وفقًا للقوانين السارية، يقتصر على توفير السيولة للمصارف عند الحاجة، بشروط محددة (كوجود ضمانات)، ولا يمتدّ هذا الدور إلى تعزيز رؤوس أموال المصارف أو ضمان ملاءتها المالية. وتكشف هذه الوثيقة اتهاماً غير مباشر للقائم بالمخالفة القانونية في العمليات التي نفذها تحت مسمى “الهندسة المالية” خلال النصف الثاني من العام السابق.
ويكشف التقرير أنه حتى نهاية 2016، اشترى مصرف لبنان سندات خزينة لبنانية وشهادات إيداع من المصارف بقيمة 20.912 مليار ليرة (ما يعادل 13.961 مليار دولار) بفائدة صفرية. وأسفرت هذه العملية عن تحقيق ربح صافٍ بلغ 8.255 مليار ليرة (حوالي 5.5 مليار دولار، وارتفع لاحقاً إلى 5.6 مليار دولار، وفقاً لجمعية المصارف). وفي المقابل، استثمرت المصارف المبلغ نفسه، أي 13.961 مليار دولار، في سندات “يوروبوندز” وشهادات إيداع بالدولار أصدرها مصرف لبنان.
بتقدير بسيط للتكلفة الإجمالية أو الأرباح الناتجة عن عمليات “الهندسة المالية”، يتجاوز الرقم 15 مليار دولار، وذلك دون احتساب التكاليف غير المباشرة الناجمة عن زيادة الدين العام وارتفاع السيولة بالليرة اللبنانية الجاهزة للمضاربة، وما خلّفته من آثار سلبية مباشرة في السوق. وقد انعكس هذا التقييم السلبي في التقرير الدوري الأخير لصندوق النقد الدولي عن لبنان، حيث ذكر حرفياً: “كان تقييم الموظفين للعملية سلبيًّا، واحتاجت السوق إلى وقت لاستيعاب آثار هذه العملية”.
هذه الكلفة ترتبت على المجتمع اللبناني، بقرار اتخذه سلامة على مسؤوليته الشخصية، ولم يعرضه أصلًا على المجلس المركزي لمصرف لبنان، وتحوّلت إلى أرباح مباشرة لعدد من المصارف وكبار المودعين، واستُعمل القسم الأكبر منها في زيادة ثروات عدد من أصحاب المصارف والمساهمين فيها، عبر زيادة الأموال الخاصة للمصارف (الرساميل التي يملكها هؤلاء)، وعبر إطفاء الخسائر وتكوين المؤونات وزيادة الملاءة، كان يُفترض أن يجري تمويلها من الأرباح السنوية المتكررة التي تحققها المصارف وليس من الأرباح الاستثنائية التي جرى ضخّها من المال العام عبر «الهندسة المالية».
دين الـ 16.5 مليار دولار المتوجب على الدولة
ربما تكون صحوة سلامة الوحيدة هي ما ذكره في شباط من العام 2023، يوم أقر أن للمصرف المركزي دين على عاتق الدولة اللبنانية يصل إلى 16.5 مليار دولار نتيجة تخفيض سعر الصرف إلى 15000 بدل 1500 ليرة لبنانية متمسكًا بالمادتين 85 و97 من القانون. مضمونهما باختصار هو أنّ المصرف المركزي هو مصرف القطاع العام ويعمل وكيلًا ماليًّا له. ونتيجة لذلك، بدأ في آخر العام 2007 بسداد مستحقات مالية نيابة عن الحكومة من أصولها الاحتياطية المقوّمة بالعملة الأجنبية، وقد حصل ذلك بناء على ضمانات مالية نقدية بالليرة اللبنانية بحسب سعر الصرف آنذاك والبالغ 1507 ليرة للدولار الواحد، على أن تتغذى هذه الضمانات من ودائع القطاع العام.
تسدد الحكومة المبلغ الذي سدّده المركزي نيابة عنها في مرحلة لاحقة بالقيمة نفسها للعملة الأجنبية، ولكن مع تخفيض سعر الصرف من 1500 الى 15000 ليرة، تجاوزت قيمة ما دفعه المصرف المركزي نيابة عن الحكومة بالعملة الأجنبية، قيمة الضمان النقدي بالليرة اللبنانية، ما أدّى إلى اعتبار صافي الرصيد مدينًا بـ16.5 مليار دولار للمصرف المركزي. من هنا الدولة مدينة للمركزي ليس فقط بسندات اليوروبوندز والبالغة 5 مليار دولار، حيث إن الحساب 36 العائد للدولة اللبنانية كان طيلة تولي سلامة مفتوحًا وغير منظم ومتداخلًا مع حسابات مصرف لبنان، وكانت الدولة تلجأ لسلف مفتوحة دون تحديد ما لها وما عليها.
سلامة لم يبقَ للمودعين أي دولارات.. الباقي هو ليرة تحولت إلى دولار
وفقًا للموجز الشهري الذي أصدرته جمعية المصارف، بلغ إجمالي الودائع بالعملات الأجنبية 87.3 مليار دولار، وقد خصصت المصارف ما قيمته 78.8 مليار دولار منها، سواء بالليرة اللبنانية أم بالعملات الأجنبية، للتوظيف في مصرف لبنان حتى نهاية شهر أيلول / سبتمبر الماضي. وتطالب المصارف اليوم باسترداد هذه الأموال، التي استخدمها مصرف لبنان في تمويل الدولة، وتثبيت سعر صرف الليرة، وتنفيذ عمليات الهندسة المالية، وغير ذلك من الاستخدامات، وذلك لتتمكن من سداد أموال المودعين. ويبدو أن مصرف لبنان يؤيد هذا التوجه، حيث قدّم الملامح العامة لخطته التي تستند في جوهرها إلى:
– تقليص حجم الفجوة المالية من نحو 80 مليار دولار إلى ما بين 50 و53 ملياراً، وذلك من خلال شطب الفوائد الزائدة، والأموال غير المعروفة المصدر، والودائع التي تمّ تحويلها من الليرة إلى الدولار بعد اندلاع الأزمة.
– سداد مبلغ 21 مليار دولار على مراحل تمتد من ثلاث إلى خمس سنوات، مع منح الأولوية في السداد لحاملي الودائع الصغيرة.
– تحويل مبلغ يتراوح بين 30 و32 مليار دولار إلى أسهم وسندات.
وتتحمل الدولة في إطار هذه الخطة مبلغ 8.8 مليار دولار فقط، وهو ما يمثل نصف قيمة ديونها المستحقة لمصرف لبنان، البالغة 16.5 مليار دولار. في حين تتحمل المصارف مبلغ 3.88 مليار دولار، ويتكفل مصرف لبنان بالباقي.
ويستند طرح مصرف لبنان إلى ركيزتين أساسيتين:
الأولى: مبدأ قانوني، وتتمثل في اعترافه بالدين المستحق عليه تجاه القطاع المصرفي، ووجوب تسديده استناداً إلى المادة (13) من قانون النقد والتسليف. كما تؤكد على وجوب قيام الدولة بتغطية خسائر مصرف لبنان، وفقاً لما تنص عليه المادة (113) من القانون ذاته.
الثانية: حسابات مالية، حيث تشير آخر الأرقام المنشورة في الميزانية النصف شهرية للمصرف عن شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي إلى أنه يمتلك:
– احتياطيات من العملات الأجنبية تبلغ قيمتها 11.9 مليار دولار.
– احتياطي من الذهب تبلغ قيمته 36.9 مليار دولار.
– أصول متنوعة تشمل حصصاً في شركات وعقارات تبلغ قيمتها نحو 5 مليارات دولار.
وبناءً على ذلك، فإن إجمالي أصول المصرف المركزي تصل إلى 53.8 مليار دولار، وهي تتجاوز التزاماته المقدرة في أسوأ السيناريوهات بما بين 50 و53 مليار دولار. ما يجعله، من الناحية الحسابية، قادرًا على تعويض الخسائر وإعادة الأموال إلى المصارف.
إذا يسعى المصرف المركزي حاليا” لتشريح الودائع للسعي إلى رد ما يتوجب عليه، وفقا” لأحكام القانون إلى المودعين، وهو ما يدحض زعم سلامة وسرديته بأن الأموال المتبقية هي ليرات محولة إلى دولارات، وبطرحه هذا كان يقصد إلى إعادة تفعيل ما قام به سابقا” ألا وهو رد الودائع ببدعة سعر صرف جديد لاطفاء خسائر القطاع المصرفي.
