هل حان الوقت لإنهاء عصر التعليم التقليدي الطويل؟
(العربية)-29/12/2025
*جمال بنون
لنكن صريحين إلى الحد الذي يزعجنا جميعاً، نحن نُهدر أعمار شبابنا باسم التعليم. شاب في الثالثة والعشرين أو الرابعة والعشرين، يحمل شهادة جامعية، لكنه لم يعمل يوماً واحداً عملاً حقيقياً، ولم ينتج قيمة اقتصادية فعلية، ولم يبدأ حياته المستقلة بعد. ثم نتساءل عن البطالة، وتأخر الزواج، وضعف الإنتاجية، وكأن هذه النتائج سقطت علينا من السماء. الحقيقة غير المريحة هي أن منظومتنا التعليمية، بطولها المفرط وجمودها المزمن، أصبحت جزءاً من المشكلة لا جزءاً من الحل.
في عالم تتغير فيه المهن أسرع من تحديث المناهج، يصبح الاستمرار في مسار تعليمي يمتد لنحو عشرين سنة قبل الدخول الجاد لسوق العمل ضرباً من العناد لا الحكمة. الذكاء الاصطناعي لا ينتظر، والاقتصاد الرقمي لا يمنح فرصاً إضافية لمن يصل متأخراً. ومع ذلك، ما زلنا نصرّ على أن يقضي الإنسان ربع عمره في مقاعد الدراسة، وكأن طول المدة بحد ذاته ضمان للجودة. السؤال الحقيقي الذي يجب طرحه بلا تردد هو: ما القيمة الاقتصادية والاجتماعية لهذه السنوات الطويلة إذا كان الخريج يحتاج بعدها إلى سنوات أخرى ليتعلم كيف يعمل، وكيف يتحمل مسؤولية نفسه؟
تقليص سنوات الدراسة، وإلغاء مرحلة التعليم المتوسط تحديداً، ليس اعتداءً على التعليم كما يُصوَّر أحياناً، بل محاولة لإنقاذه من الترهل. ثلاث سنوات فرق ليست تفصيلاً صغيراً، بل فارقاً حاسماً بين شاب يدخل سوق العمل في التاسعة عشرة أو العشرين، وآخر يبدأ في الثالثة والعشرين أو الرابعة والعشرين. هذا الفارق يعني سنوات إنتاج إضافية، ودخلاً تراكمياً أعلى، وخبرة عملية أبكر، وقدرة أسرع على الاستقلال المالي. وعلى مستوى الاقتصاد الوطني، فإن دخول هذه الكتلة الشابة إلى سوق العمل مبكراً ينعكس مباشرة على رفع الإنتاجية، وزيادة حجم القوى العاملة الفاعلة، وتحسين معدلات النمو في الناتج المحلي الإجمالي على المدى المتوسط والطويل.
الجانب الاقتصادي لهذا التحول لا يقتصر على الإنتاجية فقط، بل يمتد إلى كفاءة الإنفاق العام. الإبقاء على مرحلة تعليمية كاملة يعني استنزافاً سنوياً للميزانيات الحكومية في تشغيل مبانٍ مدرسية، وصيانة مرافق، ورواتب ومزايا لآلاف الموظفين، ونفقات نقل ومواد تعليمية، دون عائد إنتاجي مباشر. تقليص سنوات الدراسة يفتح الباب أمام وفورات مالية حقيقية يمكن إعادة توجيهها نحو تحسين جودة التعليم، وتحديث البنية التحتية التقنية، ودعم البحث والتطوير، بدلاً من إنفاقها على إطالة زمن الجلوس في الصفوف. وفي المقابل، يبدأ العائد بالظهور سريعاً عبر دخول الشباب المبكر إلى سوق العمل، وزيادة الإيرادات من الضرائب والتأمينات، وتقليص كلفة البطالة والدعم الاجتماعي.
الاعتراض الأكثر شيوعاً على هذا الطرح يتمثل في الخوف على جودة التعليم. لكن هذا الاعتراض يفترض ضمناً أن الجودة قائمة حالياً، وهو افتراض يحتاج إلى مراجعة صادقة. الواقع أن جزءاً كبيراً من سنوات التعليم يُهدر في التكرار والحفظ والحشو، لا في بناء المهارات. تقليص المدة لا يعني تقليص المعرفة، بل إعادة توزيعها بذكاء. المعرفة الأساسية يمكن دمجها في مراحل أبكر، بينما يُعاد تعريف هدف التعليم ليكون بناء الكفاءة لا إطالة الزمن.
نجاح هذا التوجه مشروط بإصلاح تربوي جذري، يقوم على الانتقال من التعليم القائم على التلقين إلى تعليم قائم على الكفاءات. مهارات التفكير النقدي، وحل المشكلات، والبرمجة، والثقافة الرقمية، والذكاء المالي، يجب أن تبدأ مبكراً لا أن تُؤجل إلى ما بعد الثانوية. المرحلة الثانوية نفسها يجب أن تتحول من مرحلة انتظار إلى مسارات تخصصية حقيقية، تقنية وصناعية وصحية وأكاديمية، مدعومة بتدريب عملي منهجي، يربط الطالب بسوق العمل قبل التخرج لا بعده.
إجتماعيا، يحمل تقليص سنوات الدراسة أثراً عميقاً يتجاوز الأرقام. الدخول المبكر إلى سوق العمل يعزز الاعتماد على الذات، ويغرس ثقافة المسؤولية والانضباط، ويختصر الفجوة بين التعليم والحياة الواقعية. كما يساهم في معالجة واحدة من أبرز الإشكالات الاجتماعية المعاصرة، وهي تأخر الاستقرار المهني والزواج وتكوين الأسرة. حين يبدأ الشاب حياته العملية في سن أصغر، يصبح بناء المستقبل الأسري في سن مناسبة أكثر واقعية، بما يعزز الاستقرار الاجتماعي ويخفف الضغوط الاقتصادية والنفسية المتراكمة على الأفراد.
يبقى التخوف من نضج الشباب في سن أصغر حاضراً في النقاش، لكن النضج لا تصنعه السنوات بقدر ما تصنعه المسؤولية. شاب يعمل، ويخطئ، ويتعلم، ويدير دخله في سن العشرين، سيكون أكثر نضجاً من شاب قضى سنوات إضافية في الدراسة دون احتكاك حقيقي بسوق العمل. تقليص سنوات التعليم لا يسرّع الزمن فقط، بل يعيد ترتيب أولوياته.
إعادة النظر في عدد سنوات التعليم ليست تقليلاً من قيمة التعليم، بل دفاعاً عن جوهره. التعليم يجب أن يكون جسراً إلى الحياة والإنتاج، لا محطة انتظار طويلة تؤجل كل شيء. الدول التي تملك الجرأة لإعادة تصميم منظومتها التعليمية اليوم، وفق منطق اقتصادي واجتماعي عقلاني، هي الدول التي ستكسب سباق المستقبل. أما الإصرار على الإطالة، فسيبقي الشباب خارج السوق، والاقتصاد أقل كفاءة، والمجتمع يدفع كلفة تأخير لا داعي لها.
