«الأشخاص الزائدون عن الحاجة» وثورة الذكاء الاصطناعي
(البيان)-21/03/2024
*جون ثورنهيل
كيف يبدو مسار الوظائف في ظل شبح البطالة التكنولوجية؟
عرفت مصطلح «الأشخاص الزائدون عن الحاجة» للمرة الأولى وأنا أقرأ قصص الكاتبين الروسيين في القرن التاسع عشر؛ ألكسندر بوشكين وإيفان تورجينيف. في القصص التي كتباها، كان المدللون المرهقون من العالم، من طبقة النبلاء الصغار، يطاردون النساء، ويقامرون بميراثهم، ويطلقون النار على بعضهم البعض في مبارزات.
هم مثل «العجلة الخامسة في العربة»، وكما يصفهم تورجينيف: لم يجدوا هدفاً في الحياة، فيما كان نظراؤهم في الحياة الواقعية ينجرفون إلى قضايا راديكالية. ويتم إلقاء اللوم في بعض الأحيان على هذه النخبة الفائضة عن الحاجة في إشعال شرارة الثورة البلشفية في 1917.
أما المرة الثانية التي سمعت فيها هذا مصطلح «الزائدون عن الحاجة»، فكانت في سياق محادثة مخيفة جرت قريباً مع رأسمالي يستقر في الساحل الغربي. لكن هذه المرة كان الأمر مرتبطاً بثورة الذكاء الاصطناعي. وتمثلت وجهة نظره في أن الآلات ستكون قادرة عما قريب على إنجاز كل الوظائف التي يضطلع بها البشر اليوم، ما يجعل الكثير منهم زائدين عن الحاجة.
أخبرني أنه «سيكون هناك نوعان من الوظائف في المستقبل، النوع الأول لمن يأمر الآلات بما يجب عليها القيام به، والثاني لمن تأمرهم الآلات بما يفعلون».
وبعبارة أخرى، فإما أن تكون أحد الذين يضطلعون بكتابة الخوارزميات التي ستخبر سائقي «أوبر» بالوجهة التي سيذهبون إليها، أو أن تكون سائق السيارة الذي ستخبره الخوارزمية بالمكان الذي سيتوجه إليه. ومع ذلك، قد تندثر كلتا الوظيفتين إثر بروز السيارات ذاتية القيادة.
أصبحت هذه الأحاديث الاختزالية أعلى صوتاً مع تنامي صيحة الذكاء الاصطناعي. ستعمل الآلات الذكية على أتمتة القوة العقلية بالطريقة ذاتها التي أتمتت بها الآلات الغبية القوة العضلية خلال الثورة الصناعية. ومرة أخرى تكرر ظهور شبح البطالة التكنولوجية من جديد. وقال إيلون ماسك، رائد الأعمال الملياردير في مقابلة مع ريشي سوناك، رئيس الوزراء البريطاني العام الماضي، إن الذكاء الاصطناعي «سيكون أكبر قوة مدمرة في التاريخ»، وإن البشر سيبلغون مرحلة «لا تكون هناك فيها حاجة للوظائف». ونشر ماسك هذا الأسبوع قائلاً: «سيكون الذكاء الاصطناعي أكثر ذكاء على الأرجح من أي إنسان في العام المقبل».
تردد صدى التوجس من الحتمية التكنولوجية في المؤتمر الذي نظمته مؤسسة ديتشلي مؤخراً في أوكسفوردشاير بالمملكة المتحدة، وكان عن تأثير الذكاء الاصطناعي على العمل والتعليم. وحضر المؤتمر صناع سياسة ومختصون في التكنولوجيا ومسؤولون تنفيذيون للشركات. وذهب بعض المتحدثين في المؤتمر إلى أننا نمضي حثيثاً إلى «حالة طوارئ» فيما يتعلق بالوظائف، وأرباب العمل يقفزون بالفعل على الذكاء الاصطناعي التوليدي للتخلص من العمال وخفض توظيف الخريجين. واليوم، يهدد الذكاء الاصطناعي التوليدي وظائف مؤلفي الإعلانات والعاملين في مراكز خدمة العملاء، وغداً سيهدد وظائف الإدارة الوسطى والمحامين.
وسيغير الذكاء الاصطناعي التوليدي طبيعة الكثير من المهام التي ينجزها الموظفون، حتى وإن لم تقضِ على وظائفهم تماماً. وقدرت دراسة أن الذكاء الاصطناعي التوليدي سيؤثر على 10% على الأقل من المهام التي ينجزها نحو 80% من القوى العاملة الأمريكية.
لكن من ناحية أخرى، يجادل بعض خبراء سوق العمل بأن هذه التنبؤات الجامحة بنهاية الوظائف هي عملية لا تاريخية وخاطئة على نحو شبه مؤكد. ودفع الخبراء بأن هذه التوقعات تتجاهل خبرتنا السابقة مع التقنيات الجديدة، وديناميكيات التكيف المجتمعي، وآفاق الابتكار الإبداعي والعوامل الديموغرافية. وباختصار، تخلط هذه التوقعات بين الجدوى التكنولوجية والجدوى الاقتصادية، حد قول عالم الاجتماع آرون بيناناف.
وتمثلت إحدى أبرز شكاوى أرباب الأعمال في مؤتمر ديتشلي في مدى صعوبة توظيف العمالة الماهرة في الاقتصادات القريبة من التوظيف شبه الكامل والمجتمعات المسنة. وفي حين يسهل رؤية الوظائف التي سيؤثر عليها الذكاء الاصطناعي، لكن هناك صعوبة في تصور الوظائف التي ستخلقها هذه التكنولوجيا.
تجدر الإشارة هنا إلى أن نحو 60% من الوظائف في أواخر العقد الماضي لم تكن موجودة في عام 1940، سواء في مجالات الطب أو البرمجة أو الترفيه أو الطاقة الشمسية على سبيل المثال. وفي مقال نشره مؤخراً كتب ديفيد أوتور، الخبير الاقتصادي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: «ما لم يحدث تغيير هائل في سياسة الهجرة، ستنفد العمالة من الولايات المتحدة وبلدان ثرية أخرى قبل أن تنفد الوظائف لديها».
وبحسب أوتور وآخرين، علينا إذاً النظر إلى الذكاء الاصطناعي باعتباره فرصة، وليس حالة طوارئ. تتيح التكنولوجيا الجديدة فرصة لتوصيل «أهمية ومدى وقيمة» الخبرة البشرية وإعادة بناء الطبقة المتوسطة.
يمكن لنا استغلال الذكاء الاصطناعي لتعزيز التعلم مدى الحياة وتعويض القوى العاملة الآخذة في التضاؤل. يمكن لنا تحسين كفاءة المهن التي ما زال البشر ينجزونها بشكل أفضل مثل التمريض والتدريس. ويتحتم علينا أيضاً إيجاد سبل أفضل لإعادة توزيع المكاسب المالية الناتجة عن الذكاء الاصطناعي من الرابحين إلى الخاسرين.
سيؤدي الفشل في إتمام ذلك إلى ثورة أخرى لـ «الزائدين عن الحاجة»، لكن ستكون هذه المرة ضد الروبوتات، وليس عائلة رومانوف.