ثلاثة ملايين و 600 الف سائح دخلوا لبنان خلال العام 2023 وحتى بدء أحداث غزّة
السياحة تشكل 26 % من إيرادات الحساب الجاري
لا تقتصر تداعيات أحداث غزة والحرب القائمة فيها على لبنان وحده بالتأكيد، فهذه التداعيات تطاول كل دول المنطقة، لكن خصوصية الوضع اللبناني تكمن بأنه هشّ إقتصادياً، ولا يحتمل أي ضغوط إضافية، في ظل الأزمة المالية والنقدية التي يتخبّط فيها منذ نحو 4 سنوات، من دون أي بصيص أمل للخروج منها إلى الآن، في حين أن ما يُؤخر الإنهيار الكامل هو النشاط الذي تشهده بعض القطاعات الإقتصادية، وفي مقدمها القطاع السياحي الذي يمنح الوضع المعيشي اللبناني بعض الأوكسجين للإستمرار. لسوء الحظ، هناك مخاوف لبنانية من أن تكون حرب غزة سبباً في قطع هذا الأوكسجين الذي يعوّل عليه اللبنانيون عموماً، وأصحاب المؤسسات السياحية خصوصاً، ولا سيما في ما يتعلق بمناسبات مهمة مقبلة، كان من المفترض خلالها أن يشهد لبنان «زحمة سياح ومغتربين»، والمقصود هنا فرصة عيدي الميلاد ورأس السنة 2024.
الأرقام والسيناريوهات
بلغة الأرقام، شهد القطاع السياحي في العام 2023 لغاية 7 تشرين الأول (أوكتوبر) 2023، نشاطاً لافتاً، حيث قدِم إلى لبنان نحو 3 ملايين و600 ألف زائر وسائح، بما شكّل إرتفاعاً بنحو 26 % عن الفترة عينها من العام 2022. كما أن الإيرادات المباشرة للقطاع السياحي بلغت 5 مليارات و300 مليون دولار في العام 2022، وفي حال أضفنا الإيرادات غير المباشرة، فإن الإيرادات السياحية ستتجاوز هذا الرقم بكثير، ويُتوقع أن تناهز الإيرادات المباشرة للقطاع السياحي في العام 2023 إيرادات العام 2022، رغم التباطؤ الإقتصادي والأحداث الراهنة في الأشهر الأخيرة.
أما بالنسبة إلى الفنادق، فإن الإشغال كان منخفضاً ولا يتجاوز الـ 45 % في الأشهر الثمانية الأولى من السنة، وهذا لا يُعزى إلى تراجع الحركة السياحية، بل إلى أن ثمّة فنادق لا تزال مغلقة حتى اليوم، بسبب إنفجار مرفأ بيروت، في ظل الأزمة الإقتصادية والمالية الحالية، تُضاف إليها منافسة الـ Airbnb للفنادق، إذ تم إستئجار آلاف الغرف والمنازل في فترة الصيف.
بعد هذا الموسم الجيد، رسمت وكالة «ستاندرد آند بورز» في تقريرها الأخير، ثلاثة سيناريوات تتعلق بخسارة عائدات السياحة بنسبة 10 %، و30 %، و70 %، وتأثير كلّ سيناريو منها على إقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالدولار الأميركي، على الناتج المحلي الإجمالي، وعلى إحتياطات النقد الأجنبي. علماً انه تمّت معايرة النسب المئوية الثلاث لخسارة السياحة في السيناريوات المذكورة، بناءً على الملاحظات التاريخية التالية:
– خلال الصراع اللبناني – الإسرائيلي في العام 2006، والذي إستمر 33 يوماً، إنخفض عدد السياح الوافدين إلى لبنان بنسبة 40 % تقريباً في الفترة من تموز (يوليو) إلى آب (أغسطس)، وبنسبة 6 % في المتوسط للعام بأكمله مقارنة بالعام 2005.
– خلال «الربيع العربي» في العام 2011، إنخفض عدد السياح الوافدين بنسبة 33 % في مصر وبنسبة 20% في الأردن.
– خلال جائحة «كوفيد-19»، إنخفض عدد السياح الوافدين في جميع أنحاء العالم بنسبة 70 % في المتوسط في العام 2020. وفيما أشار التقرير إلى أن إحتمال تحقق تقديرات السيناريو الثاني والثالث للخسائر ضعيف، نظراً إلى فرضية إنتهاء الحرب قبل النصف الأول من العام المقبل، أوضح أن لبنان سيخسر في حال تراجعت عائدات السياحة بنسبة 10 %، تدفقات مالية بقيمة 500 مليون دولار، فيما سترتفع الخسارة إلى 1,6 مليار دولار في حال تراجعت عائدات السياحة بنسبة 30 %، لتصل الى 3,7 مليارات دولار، في حال تراجعت عائدات السياحة بنسبة 70 %.
وبالنسبة إلى تأثير تراجع عائدات السياحة على الناتج المحلي الاجمالي، رجّح التقرير بأن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي في لبنان بنسبة 3,3 % مع تراجع عائدات السياحة بنسبة 10 % سنوياً، وأن ينخفض الناتج بنسبة 9,8 % في حال تراجعت العائدات بنسبة 30 %، ليصل الإنخفاض في الناتج إلى 22,9 % في حال تراجعت العائدات بنسبة 70%.
أما إحتياطات النقد الاجنبي، فستنخفض بنسبة 2 % في حال تراجعت عائدات السياحة 10 %، وستنخفض بنسبة 6 % في حال تراجعت العائدات بنسبة 30 %، لتصل نسبة التراجع في الإحتياطات إلى 13,9 % مع تراجع عائدات السياحة 70 %.
ولفت التقرير إلى أن لبنان يعتمد على القطاع السياحي بشكل كبير، إذ هو من بين الدول الأربع، إضافة إلى إسرائيل، مصر والأردن، حيث شكل 26 % من إيرادات الحساب الجاري، مما يُعرّض البلاد لضعف في النمو الإقتصادي والأرصدة الخارجية، بسبب إنخفاض عدد السياح الوافدين. وإذا إنخفضت عائدات السياحة بنسبة 10 % إلى 30 %، فإن الخسارة المباشرة قد تصل إلى نسبة 10 % من الناتج المحلي الإجمالي. وبينما يبدو التأثير أكثر هدوءاً كنسبة مئوية من الإحتياطات الأجنبية، فإن ذلك يرجع إلى أن إجمالي إحتياطات النقد الأجنبي أعلى في لبنان، ولكنها تشمل جزءاً كبيراً من الذهب والإحتياطات الإلزامية على ودائع البنوك بالعملات الأجنبية، والتي لا يُمكن لمصرف لبنان الوصول إليها، موضحاً أنه في سياق الشحّ المستمر في العملات الأجنبية، وإنخفاض قيمة العملة بأكثر من 95 % منذ العام 2020، والتضخُّم المفرط، والفراغ السياسي، لا يستطيع لبنان تحمّل التخلّي عن تدفقات العملات الأجنبية الهامة من السياحة.
بيروتي: علينا إتخاذ مبادرات داخلية لإمرار المرحلة بأقل الخسائر
في مقابل عدم اليقين السياسي والإقتصادي والأمني الذي يعيشه لبنان والمنطقة، إنتقد الأمين العام لإتحاد النقابات السياحية جان بيروتي في حديث لمجلة «إتحاد المصارف العربية»، «عدم إتخاذ أي قرار يفيد الإقتصاد منذ نحو أربع سنوات، في ظل الأزمة الموجودة في البلد وفي البلديات، وإستغلال كل المقدّرات وتهجير الشباب، وعدم دعم القطاع السياحي من قبل القيمين وفرض الرسوم غير المنطقية»، مشدداً على أن «القطاع السياحي هو الأكثر حساسية وتأثراً بالأحداث عموماً، في ظل حرب الإستنزاف الحالية، التي تتركه في حالة موت سريري وترقُّب للحرب».وأشار بيروتي إلى أن «موظف القطاع السياحي يدفع الثمن مع عدم قدرته على الإستمرار»، لافتاً إلى «معاناة القطاع السياحي في ظل هذه الحرب، التي تشل القطاع من جديد، والحاجة إلى تحضير خطة طوارئ لحركة الطيران، وللمجموعات السياحية».
وختم بيروتي قائلاً: «علينا إتخاذ مبادرات داخلية لإمرار المرحلة الراهنة بأقل الخسائر، والإستفادة من السياحة الداخلية، إذ لا يُمكن توقع أي شيء مستقبلاً، في ما يتعلق بحرب غزة الدائرة حالياً».
الأشقر: حتى لو توقفت الحرب لكن القطاع السياحي يحتاج إلى ثلاثة أشهر لإستعادة عافيته
على صعيد القطاع الفندقي، عمد أكثر من فندق في لبنان إلى تخفيض عدد موظفيه، منذ منتصف تشرين الأول (أوكتوبر) 2023، والذين يتم التعاقد معهم، عبر شركات خاصة لخدمات النظافة وترتيب الغرف، بسبب تقلُّص نسبة الأشغال فيها، والتي لا تزيد حالياً على نسبة 10 %.
ويشرح رئيس نقابة أصحاب الفنادق في لبنان بيار الأشقر لـ «مجلة اتحاد المصارف العربية»، أن «الحجوزات والأشغال في فنادق بيروت تُراوح بين الصفر والـ 10%»، مؤكداً «أن بعض الفنادق في بيروت غير مشغولة بالزبائن، فيما تبلغ نسبة الإشغال في أحد الفنادق الكبرى نسبة لا تتجاوز الـ7%. أما خارج بيروت فالوضع سيّئ جداً. علماً أنه في مثل هذا الوقت من العام، تكون نسبة الإشغال في الفنادق في بيروت نحو 25%، وباقي المناطق نحو 10% (نهاية موسم الإصطياف وبدء موسم المدارس)»، مشيراً إلى أن «ما يحصل على الصعيد الأمني شكل صدمة لنا، ونحن معتادون على هذه الصدمات.
علماً أن تأثير هذه الأحداث على القطاع الفندقي قد إنسحب على تسجيل فراغ كامل في نسب الإشغال، إذ إن كل السياح وأهلنا المغتربين الذين كانوا سيزورون لبنان في هذه المرحلة، قد ألغوا حجوزاتهم، كما أُلغيت سائر المؤتمرات والمعارض التي كانت ستُنظم في الفنادق اللبنانية».
ويضيف الأشقر: «في تقييمنا للوضع الحالي، حتى لو عادت الأمور إلى طبيعتها في أقرب وقت، فإن القطاع السياحي في لبنان يحتاج إلى ثلاثة أشهر حداً أقصى، لإستعادة عافيته، ليُسجل نسبة 50% مقارنة بالإزدهار الذي سجله خلال فترة الصيف الماضي، أي لنتمكن من إعادة المؤتمرات والمجموعات السياحية التي كانت ترغب في المجيء إلى لبنان، وإقناعها بأن الوضع الأمني قد إستتب نهائياً، خصوصا وأن الإعلام العالمي يُركز على أن لبنان هو جزء من الجبهات المفتوحة، إلى جانب غزة، وتوترات منطقة الشرق الأوسط ككل. لذا، في ظل كل هذه الأجواء، لا يمكن البحث في تنشيط السياحة في الوقت الحالي».
ويشدد الأشقر على «أننا نعيش في منطقة ملتهبة، ستنعكس سلباً على الوضع السياحي في كل البلدان، فيما التراجع الأكبر يسجله لبنان راهناً، لكن لا يمكن تحديد أرقام الخسائر في القطاع الفندقي. علماً أن كلفة تسيير أحد الفنادق في بيروت تصل إلى 170 ألف دولار (معاشات الموظفين)، ونحو 150 ألف دولار (كلفة تشغيلية)، بينما الإشغال لا يزيد عن الـ10%. من هذا الواقع، يُمكن إحتساب الخسائر، وفي حال إستمر الوضع على ما هو عليه، فلا شك في أن المؤسسات الفندقية ستفكر جدياً في تخفيض عدد موظفيها».
ويشرح الأشقر أن «الجميع يعلم بأن جهداً كبيراً بُذل من قبل القطاع الخاص في لبنان، وقد إستطاع أن يُطلق منتجاً سياحياً جديداً هو «بيوت الضيافة» التي وُجدت في قرى نائية عدة كما هي الحال في عكار وصور والبقاع، ما وضع هذه القرى على الخريطة السياحية، بعدما كانت تتركز السياحة في بيروت وجبل لبنان فقط خلال 50 عاماً مضت»، مشيراً إلى أن «هذا النوع من السياحة تطوّر بعد جائحة كورونا، وباتت الناس تتّجه نحو السياحة البيئية والرياضية، وقد حصلت إستثمارات كبيرة في هذا المجال، حيث إنتشرت في جميع المناطق اللبنانية مثل: الضنية، ورأس بعلبك، وعكار، وجزين وصور، وهي مناطق لم تكن على الخريطة السياحية وفق الأصول، رغم وجود بعض الفنادق في هذه المناطق. وهكذا بسبب «بيوت الضيافة»، باتت هناك مجموعات كبيرة تقصد هذه المناطق».
ويتابع الأشقر: «إن هذا الجهد الكبير، كان نتيجة نداءاتنا للمغترب اللبناني، لدعم بلده في الأزمة الراهنة. وقد أظهر المغتربون شعوراً وطنياً كبيراً، ولبّوا النداء عبر مجيئهم للبنان ومساعدتهم في دعم الإقتصاد الوطني»، مشيراً إلى أن «هذا الأمر أظهر أن السياحة كانت ولا تزال هي القاطرة الأساسية للإقتصاد في لبنان. وقد مرّ علينا صيف هذا العام (2023) أفضل من الصيف الماضي، وتبيّن أن هناك نمواً تدريجياً في القطاع، وهذا أمر مقبول.
وقد إستطعنا وضع لبنان على الخريطة السياحية للسياح الغربيين، الذين كانوا يخافون من زيارة لبنان، وهذا بسبب الجهد الذي تمّ بذله، وبمساعدة وسائل التواصل الإجتماعي والدعايات التي قامت بها الجمعيات لدعم السياحة في لبنان والتعريف عن المناطق السياحية فيه».
ويختم الأشقر قائلاً: «إن كل هذه الخطوات أثّرت إيجاباً على لبنان، وبات السائح الغربي سواء كان أميركياً، أو مكسيكياً أو أوروبياً، مستعد لزيارة لبنان، مسجلين هذا العام، أعداداً تفوق السنوات الماضية. وقد كانت هذه الوتيرة ستُستكمل خلال فصلي الخريف و الشتاء، لولا التطوُّرات الأمنية المستجدة».