احذروا فورة الذكاء الاصطناعي
(البيان)-28/03/2024
رانا فوروهار*
ثمّة شعور بالحتمية يتسرب من آخر سردية تكنولوجية شأنها شأن قصص الفقاعات العظيمة كافة
أسبوع جديد، ومستويات قياسية مرتفعة جديدة لأسواق الأسهم الأمريكية. تعود الطفرة المسجلة بالأسبوع الفائت إلى تلميح الاحتياطي الفيدرالي إلى إمكانية تطلع المستثمرين إلى مزيد من تخفيضات أسعار الفائدة مستقبلاً هذا العام. لكن تفاؤل السوق في أساسه يستند إلى عاملين، هما السيولة الاحتياطية المتوفرة لدى عمالقة التكنولوجيا الذين يهيمنون على الأسواق حالياً، والإيمان في قدرتها على تحقيق ربح مالي من الذكاء الاصطناعي.
يخبروننا بأن الذكاء الاصطناعي «سيغير العالم». ستكون التكنولوجيا معززةً للإنتاجية على نحو جذري، حتى وإن كانت ستعرقل ملايين الوظائف. وسيأتي الذكاء الاصطناعي بكعكة ثروة يمكن للعالم بأسره تقاسمها. صدر تقرير يخطف الأنفاس عن «إيه آر كيه إنفست» في الأسبوع الماضي وتوقع ازدياد الناتج المحلي الإجمالي العالمي بمقدار 40 تريليون دولار بفضل الذكاء الاصطناعي بحلول 2030، لكنه أفاد بأنه «سيعمل على تحويل كافة القطاعات، وسيؤثّر على كل الأعمال، وسيستحدث كل منصّة إبداعية».
النشوة والشعور بالحتمية هما ما يثيران قلقي حيال هذه السردية المباشرة. وحتى وإن كنت تعتقد في أن الذكاء الاصطناعي سيكون مكافئاً للكهرباء والإنترنت اليوم، فما زلنا في المراحل الأولى من تحوّل شديد التعقيد سيستغرق عدة عقود فيما لم يترسخ بعد. ومع ذلك، تتحسّب التقييمات للتغيير بأسره، أو قدر منه. أشار تقرير عن «كارنسي ريسيرش أسوسيتس» إلى أنّ تساوي توزيعات الأرباح المستقبلية لشركة «إنفيديا» مع سعرها الحالي سيستغرق 4,500 عام. نتحدث هنا عن الذيل الطويل على منحنى الطلب.
وفي حين أن «إنفيديا» ليست مثلها مثل «بيتس دوت كوم»، لتمتعها بإيرادات حقيقية تحصل عليها من بيع منتجات حقيقية، لكن السردية بأسرها عن الذكاء الاصطناعي تعتمد على الكثير من الافتراضات غير اليقينية. فعلى سبيل المثال، يتطلب الذكاء الاصطناعي قدراً كبيراً من الماء والطاقة. وفي الوقت ذاته، ثمّة توجه لدى المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي لإجبار الشركات على الإفصاح عن استخداماتها. وبغض الطرف عمّا إذا كان ذلك نتيجة تسعير الكربون أو فرض ضرائب على استغلال الموارد، فمن المُرجح أن تكاليف هذه المدخلات سيرتفع على نحو بالغ في المستقبل.
وبالمثل، لا يحوز مطورو الذكاء الاصطناعي حالياً على الملكية الفكرية لأي من المحتوى الذي تُدرّب عليه النماذج. لا يتوجب على المطورين جني أرباح من الذكاء الاصطناعي ذاته، فافتراض المكاسب المستقبلية في حد ذاته كاف لتغذية الفقاعة. يولّد وادي السيليكون الثروات نظرياً بفضل التفاؤل الدؤوب إزاء التكنولوجيا ووهم الحتمية. لكن لنتذكر أن الكثير من مناصري «الذكاء الاصطناعي في كل النواحي» كانوا يروّجون لـ «ويب 3.0» والأصول المُشفرة و«ميتافيرس» وكل منافع اقتصاد الأعمال المستقلة منذ وقت ليس بالبعيد.
ثمّة اختلاف مع ذلك، وهو تصديق كبرى الشركات الغنية بالأموال والرائدة للسوق، مثل «مايكروسوفت» و«غوغل» و«أمازون»، على الذكاء الاصطناعي، لكن حتى المطورين داخل هذه الشركات تساورهم الشكوك. اعترف لي أحد كبار الموظفين لدى شركة رائدة متخصصة في الذكاء الاصطناعي، حين مارست ضغوطاً عليه، بأن افتراضات الأرباح في أرجاء قطاع التكنولوجيا كانت تستند إلى «تكهنات أكثر من جوهر التكنولوجيا»، وأن التقنية في حدّ ذاتها توجد بها أوجه خلل كبيرة لم تُحلّ بعد.
يمكن لأي ممن جرّبوا النماذج اللغوية الكبيرة أن يجزم بذلك. لا أعتمد على روبوتات الدردشة لدى إنجازي للأبحاث من أجل عملي لأني لا أريد أن يساورني قلق حيال دقة البيانات التي تردني، ولا أرغب أيضاً في التخلي عن قدرتي على الإشراف على مدخلات المعلومات خاصتي، بل أفضّل إجراء بحث عبر «غوغل» ورؤية المصادر والمراجع أمامي.
من المُعترف به أنني أعمل بوظيفة في الطرف العلوي من السلم الوظيفي لوظائف الياقات البيضاء. ولكن حتى بالنسبة للمهام الوظيفية للسوق المتوسطة الروتينية، ثمّة تساؤلات حيال كيفية دمج الذكاء الاصطناعي في سير العمل، وما إذا كان سيكون أكثر إنتاجية حقاً من البشر الذين قد يحلّ محلهم. وها قد بدأ البشر يثورون. كانت سيطرة الذكاء الاصطناعي في لُب إضرابات الكاتبين في هوليوود، فيما تتعامل الاتحادات النقابية مع مشكلة تنظيم التكنولوجيا على نحو أوسع.
وفي الوقت ذاته، يزداد زخم ثورة حقوق التأليف ضد الذكاء الاصطناعي. قررت الجهات التنظيمية في فرنسا الأسبوع الماضي فرض غرامة على «غوغل» بقيمة 250 مليون يورو؛ لفشلها في إبلاغ ناشري الأخبار باستخدامها مقالاتهم لتدريب خوارزميات الذكاء الاصطناعي خاصتها، ولعدم إبرامها صفقات عادلة. ويأتي هذا في أعقاب قضايا ضد كل «أوبن إيه آي» و«مايكروسوفت» رفعتها صحيفة «نيويورك تايمز». ومع شق الذكاء الاصطناعي طريقه في البيانات المملوكة للشركات، تزداد فرص نشوء منازعات قضائية بسبب حقوق النشر، وقد تتضافر وشكاوى العمال بسبب مراقبة الشركات لهم.
ثم يحين وقت الحديث بعد ذلك عن مشكلة الاحتكار. ومثلما كتبت ميريديث ويتاكر، رئيسة مؤسسة «سيغنال» والمؤسسة المشاركة لمعهد إيه آي ناو، في 2021، فالتقدم المُحرز على صعيد الذكاء الاصطناعي إنما هو «نتاج تركز البيانات ومصادر حاسوبية في أيدي حفنة من كبرى شركات التكنولوجيا في المقام الأول». وأضافت ويتاكر أن ازدياد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي «يسلّم سلطة مُبالغاً فيها على حياتنا والمؤسسات لأيدي حفنة من شركات التكنولوجيا».
فيما حفّزت الشركات المعروفة باسم «الرائعين السبعة» الحماس حيال الذكاء الاصطناعي، وكانت المحرك وراء مكاسب سوق الأسهم في العام الماضي. ودفعت هذه الشركات بتركيز القوة في مؤشر «إس آند بي 500» إلى مستوى تاريخي مفرط. ومع ذلك، أشار تقرير صدر أخيراً عن «مورغان ستانلي ويلث مانجمنت» إلى أن «التركز في المؤشر ثبت تاريخياً أنه يصحح نفسه ذاتياً، وأن ما يقوّض القيادة الجامدة مزيج من العوامل التنظيمية والسوقية والتنافسية، بجانب ديناميكيات دورة الأعمال». وذهب التقرير إلى إفادة «التحليل بأن عوائد الأسهم عادة ما واجهت صعوبات بعد بلوغ التركيزات ذروتها».
وقد يشتمل مزيج عوامل التصحيح على العدد المتزايد من قضايا مكافحة الاحتكار ضد كبرى شركات التكنولوجيا واحتمالية تشكيل تسعير الكربون وغرامات حقوق النشر صعوبات أمام المدخلات «المجانية» اللازمة لتحقيق الربح. وسواء كنت تعتبر الذكاء الاصطناعي بمثابة فقاعة التوليب التالية أو محرك الاحتراق الداخلي التالي، فإن الأمر يستحق أن نتساءل عمّا إذا كانت السوق تتوقع هذه الأمور.