بوصلة جديدة لعلم الاقتصاد
(العربية)-08/04/2024
*كيت راوورث
إذا كان لعلم الاقتصاد أن يصبح أداة لإبعاد المجتمعات البشرية عن الأزمات المتوطنة وتقريبها من مستقبل مزدهر وقادر على الصمود، فلا بد أن يتم تجديده باعتماد بوصلة وخريطة جديدتين تتناسبان مع العصر الذي نعيش فيه.
وكما قال جون مينارد كينز 1938، “إن الاقتصاد هو علم التفكير باستخدام نماذج، ممزوجا بفن اختيار النماذج الملائمة للعالم المعاصر”. ومما يدعو إلى التندر أن بعض النماذج الأعمق أثرا، والتي لا تزال تشَكل الفكر الاقتصادي اليوم، قد صيغت في زمن كينز نفسه. ولو كان كينز حيا في القرن الحالي – وكان شاهدا على حجم الأزمات الاجتماعية والبيئية التي بتنا نواجهها – لكان بالتأكيد قد حث زملاءه الاقتصاديين على صياغة نماذج جديدة تعكس المعرفة والواقع والقيم السائدة في عصرنا الراهن، ولكان ذلك عين الصواب.
ففي القرن الماضي، عندما تبنى الفكر الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية النمو ليكون هدفه الفعلي، أصبح إجمالي الناتج المحلي هو بوصلة خبير الاقتصاد، حيث صور الفكر الاقتصادي النمو على هيئة منحنى أسي مقياسه الوحيد هو القيمة النقدية وهدفه زيادتها إلى ما لا نهاية، بغض النظر عن مدى ثراء البلد أصلا. وقد تبين الآن بجلاء تأثير استمرار البلدان الثرية في إعطاء نمو إجمالي الناتج المحلي أولوية مقدمة على معالجة عدم المساواة وحماية العالم الحي الذي نعيش فيه..
وباعتماد مثل هذه البوصلة، تستخدم لوحة متابعة تضم مقاييس اجتماعية وبيئية متنوعة بدلا من المقياس الواحد المتمثل في إجمالي الناتج المحلي. ويستتبع ذلك إعادة تعريف النجاح بأنه تحقيق الازدهار في ظل التوازن بين الحدود الاجتماعية والبيئية، وليس تحقيق النمو اللانهائي. ويتطلب ذلك تحولا عميقا في النمط الفكري. وبناء عليه، لا ينبغي لأي اقتصاد أن يصف نفسه حاليا بأنه اقتصاد “متقدم” لأنه ما من اقتصاد في العالم قد نجح في سد كافة احتياجات سكانه في حدود إمكانات الكوكب.
ومن هنا يجب أن تكون خريطة القرن الـ21 نقطة انطلاق أشمل وأكثر تركيزا على النظم الحيوية، وذلك بالاعتراف بأن الاقتصاد متضمن في العالم الحي ومعتمد عليه في آن واحد.
ومن هذا المنظور يتضح أن الطاقة، وليس المال، هي عملة الحياة الأساسية، وأن تلك العملة هي الركيزة الأساسية لكافة الأنظمة البشرية والبيئية والصناعية. ومن هنا فإن الاعتماد على الطاقة يكمن في صلب تفكير الخبير الاقتصادي. ويجب أن نقر بأن استمرار استخدام البشرية للموارد يفرض ضغوطا هائلة على حدود الكوكب، ما يسفر عن خطر كبير يهدد بتقويض الاستقرار البيئي الذي تعتمد عليه حياة الإنسان وكافة الكائنات الحية اعتمادا أساسيا.
كذلك فإن تبني بوصلة جديدة للفكر الاقتصادي يستلزم تكوين رؤية أكثر شمولا لأنواع النشاط الاقتصادي التي توفر احتياجات الناس الضرورية وتلبي مطالبهم. فعلى مدار فترة تجاوزت القرن، سيطر على الفكر الاقتصادي السائد ما يشبه الملاكمة الأيديولوجية بشأن الدور الذي يطلع به كل من السوق والدولة.
إن التجديد الاقتصادي يجب أن يكون هدفه الأول هو ازدهار الإنسان على كوكب حي مزدهر. وإذا كنا نأمل في تحقيق هذا الهدف، فنحن بحاجة إلى نماذج اقتصادية كلية تقر بأن الاقتصاد نظام متفرع من العالم الحي. وضمن هذا العالم، يجب إعادة تصميم النظام المالي ليكون في خدمة الاقتصاد الحقيقي، أي في خدمة الحياة. ويمثل هذا ثورة في المفاهيم، وهي ثورة ضرورية.