(البيان)-23/01/2024
ما هي التوَقُعات للاقتصاد العالمي؟ للإجابة عن هذا السؤال، يجب علينا البدء بالقوى الأساسية الفاعلة. أهم هذه القوى هي التغيُّرات الجوهرية في الفرص الاقتصادية. وتشمل هذه التغيُّرات خفض تكاليف النقل والاتصالات، والتحوّلات في المزايا النسبية، وتغيُّر الفرص لاستغلال اقتصاديات الحجم والتعلُم بالمُمارسة.
بالإضافة إلى ذلك هناك تغيُّرات الأفكار الاقتصادية والواقع الجيوسياسي، التي لا تقل أهميتهما عن باقي التغيُّرات ولا سيما على المديّين القصير والمُتوَسط.
وأخيراً، هناك الصدمات، مثل الحروب والأوبئة، التي تؤدي إلى تحولات في مفاهيم الأعمال التُجارية والشعوب والسياسيين عن مخاطر وتكاليف وفوائد التكامُل العابر للحدود. ويُسلط تاريخ التكامُل العابر للحدود، خاصة في التجارة، الضوء على التفاعل بين هذه القوى.
أما القصة طويلة الأمد فهي قصة التكامُل المُتنامي. فقد ارتفعت نسبة التجارة العالمية للسلع بين 1840 و2022 إلى الناتج العالمي بحوالي أربعة أضعاف.
ومع ذلك، شهد الانفتاح على التجارة تقلُبات درامية: فقد تضاعفت نسبة التجارة في السلع إلى الناتج العالمي إلى ثلاثة أضعاف بين 1840 و1913، ثم انخفضت بحوالي ثُلثين بين 1913 و1945، ومرة أُخرى زادت ثلاثة أضعاف بين 1945 و1990 لتتجاوز مستويات ما قبل 1914.
وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وامبراطوريته في أوائل التسعينيات، شهد الاقتصاد العالمي حقبتين. الأولى، حتى عام 2010 تقريباً، وهي كانت حقبة «العولمة المُفرطة»، وهي تسمية استخدمها أرفيند سوبرامانيام ومارتن كيسلر في ورقتهما البحثية في عام 2013 لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي.
وكانت السمات السائدة لهذه الحقبة هي النمو السريع للمُعاملات الدولية مُقارنةً بالناتج العالمي، مع تزايد تدفقات رأس المال عبر الحدود بشكلٍ أسرع حتى من تزايد التجارة في السلع والخدمات. وحتى وقوع الأزمة المالية في الفترة 2007 – 2009، كان الاقتصاد العالمي قد اصبح أكثر تكامُلاً من أي وقت مضى على الإطلاق. بعدها، دخل الاقتصاد العالمي حقبة يُطلق عليها البعض «العولمة المتباطئة»
. وقد حلّل سوبرامانيام وكيسلر (بمُشاركة إمانويل بروبرزي) هذا المفهوم في مقالة لمعهد بيترسون في نوفمبر 2023. خلال هذه الفترة، نمّت التجارة نمواً مُطرداً يتماشى مع الناتج العالمي، بينما انخفضت نسب الاستثمار عبر الحدود مقارنة إلى الناتج العالمي بأكثر من النصف.
فما الذي تسبب في العولمة المُفرطة قبل الأزمة؟ ولماذا انتهت بتباطؤ العولمة؟ وما الذي قد يحدث بعد ذلك؟ تتلخص الإجابة على السؤال الأول في أنه بعد عام 1990، اجتمعت القوى المؤثرة الثلاث معاً. أولاً، خلقت قُرابة قرن ونصف القرن من النمو الاقتصادي المُتباين فجوات هائلة في الإنتاجية بين الاقتصادات الأكثر تقدماً وتلك المُتأخرة، ولا سيما الصين، ما خلق فُرصاً هائلة للاستفادة من العمالة الرخيصة.
ثانياً، سمحت حاويات الشحن والطائرات العملاقة والتطورات في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بتكامُل عابر للحدود غير مسبوق لمُنظمات الأعمال وتفكيك سلاسل التوريد. وأخيراً، أدّى التحوّل العالمي نحو الإيمان بتحرير السوق والانفتاح العابر للحدود إلى تحوّل بالسياسات. وكان وصول مارغريت تاتشر ورونالد ريغان ودنغ شياو بينغ إلى السُلطة في المملكة المُتحدة والولايات المُتحدة والصين، على التوالي، من بين لحظات التحوّل الكُبرى.
أما على صعيد التجارة العالمية، فكان من ضمن أحداثها البارزة اكتمال جولة أوروغواي للمفاوضات التُجارية مُتعددة الأطراف في عام 1993، وإنشاء السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي في عام 1993، وتأسيس مُنظمة التجارة العالمية في عام 1995، وانضمام الصين إلى مُنظمة التجارة العالمية في عام 2001.
لكن ما الذي تسبب في إنهاء هذه الفترة؟ ضعفت كل العوامل الرئيسية أو تراجعت قوتها. وتقلصت الفُرصة لزيادة التجارة من خلال استغلال الاختلافات في تكاليف العمالة، حيث تقاربت هذه التكاليف. ومع نمو اقتصاد الصين، تناقص طبيعياً اعتمادها على التجارة. كما ألقت الصدمات الناجمة عن الوباء والحروب الضوء على المخاطر المُرتبطة بالاعتماد الشديد على التجارة للحصول على الإمدادات الأساسية.
ولعل التغيُّرات الأيدولوجية كانت مُهمة على الأقل بالقدر ذاته، ومن بينها ازدياد سياسات الحمائية الاقتصادية والنزعات القومية، ولا سيما في الولايات المُتحدة، والتي حفزها صعود الصين الاقتصادي والـ«الصدمة الصينية» للتوظيف الصناعي. وحدثت تغييرات موازية في الصين تحت قيادة شي جين بينج. وهنا أيضاً، حدثت تحوّلات بالسياسات من الاعتماد على السوق الحرة والأعمال التُجارية الخاصة إلى زيادة السيطرة الحكومية.
ربما يكون الأهم هو أن الأزمة المالية العالمية والوباء وتوترات القوى العُظمى الحالية قد حوَّلت الثقة إلى شك والاستعداد للمُجازفة إلى الحد منها. كما لم يحدث أي تحرير تُجاري عالمي حقيقي منذ أكثر من عقدين.
ما الذي قد يحدث بعد ذلك؟ يبدو أن استمرار الوضع الفوضوي القائم هو أكثر الإجابات إقناعاً. وسيظل الاقتصاد العالمي مُنفتحاً نسبياً وفقاً للمعايير التاريخية مع نمو التجارة بموازاة الناتج العالمي، مع بعض الزيادة أو النقصان.
وسيحدث انفصال لبعض الصلات المُباشرة بين الولايات المُتحدة والصين. ولكن محاولة تحوّل الولايات المُتحدة (وغيرها) نحو موردين آخرين سيجعل هناك اعتماداً غير مُباشر على المُدخلات المستوردة من الصين. سيواصل عدد كبير من الدول الحفاظ على التجارة مع الولايات المُتحدة وحُلفائها المُقربين من ناحية، ومع الصين من ناحية أُخرى.
وسيكون البديل الأكثر احتمالاً هو انهيار أكثر شدة. وقد تنتهي محاولات تقييد الإجراءات الأمريكية ضد الصين بشأن الأمن القومي، مثل مُقاربة جيك سوليفان «الفناء الصغير والسياج العالي»، فقد ينتهي الأمر بفناء كبير وسياج عالٍ؛ وقد يكون فوز دونالد ترامب بالرئاسة هو العامل المُحفز لذلك.
كما قد تكون النزاعات حول آلية تعديل الحدود الكربونية للاتحاد الأوروبي مُحفزاً آخر لسياسات الحمائية الاقتصادية. إن الاقتصاد العالمي المُتكامل لا يزال صامداً. ولكن قد يُسبب التنافس القومي بين القوى العُظمى اضطرابات هائلة. فهل ستكون هذه الحقبة استثناءً؟ علينا العمل لضمان ذلك.