أزمة القطاع المصرفي ما بين الجلّاد والضحية… متى الحل؟
(النهار)-15/04/2024
لم تنتهِ ازمة القطاع المصرفي في لبنان، رغم مرور اكثر من خمس سنوات على حصول النكبة المصرفية. كان يُفترض ان تشكّل المعالجة اولوية حكومية، لكن اجراءات حكومة حسان دياب هي التي ساهمت في ارتفاع منسوب نسف مشاريع العلاج، بفعل خطوتين اساسيتين:
اولاً، قرارات الدعم الشعبوي غير المدروس، التي استنزفت القطاع المصرفي آنذاك، عبر هدر الودائع، بطريقة عشوائية.
ثانياً، الامتناع عن تسديد سندات “اليوروبوندز”، التي ورّط فيها المستشارون الماليون حكومة دياب، ومعها كل البلد، ليدفع لبنان حالياً أثمان تلك الخطوة.
تُطرح حالياً سيناريوات الحل للقطاع المصرفي، عبر اعادة هيكلة القطاع، وفرض الدمج، أو ادخال مصارف جديدة. لكن الطروحات تراوح مكانها نتيجة الرفض المتبادل، ووضع “الفيتوات” في اطار الحسابات التي لا تخلو من السياسة، ولعبة النفوذ، والمصالح، بينما يأتي رفض ادخال مصارف اجنبية جديدة، لمنع انهيار المصارف الموجودة التي ستُعلن حينذاك الإفلاس.
في الإنتظار، جرت محاولات للحدّ من الخسائر، أو وقف نزف القطاع المصرفي باءت جميعها بالفشل المتدرّج، الى ان وصلنا الآن الى تثبيت المسار: لا تقدم، ولا تراجع. لكن الخسائر قائمة ودسمة.
عندما أصدر حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة تعاميم الى المصارف، بهدف تأمين السيولة لمنع الانهيار، لم تستطع كل المصارف تنفيذ تلك التعاميم، فلجأ بعضها الى السوق، وكرّت بعدها بدعة “الشيكات”، من دون رقابة، ولا محاسبة، فدخل القطاع المصرفي في دورة الأخطاء القاتلة.
استقالت الدولة من مسؤولياتها، واعتمد مسؤولوها خطاب المزايدة من جهة، وتجاهل الوقائع المُرّة من جهة أخرى، علماً ان هناك نحو 70 مليار دولار للقطاع المصرفي في ذمة الدولة. فلماذا لم تُقر القوانين الاصلاحية لتحديد الخسائر، وتحمّل المسؤولية في الفجوة المالية؟ أو على الاقل فرض حلول تتعلّق بالأموال”الفريش”، والقروض، وغيرها، والتي تعيد الحياة مرحلياً الى القطاع المصرفي المشلول؟
شكّل الهروب الرسمي من اقرار خطة اصلاحية زيادة في تداعيات الازمة المصرفية على القطاع والمودعين معاً: لا اقرار بالخسائر، لا قطاع مصرفي يتقدم، ولا مودع يأخذ امواله.
تُنتظر مواكبة المصرف المركزي للتطلّعات. صحيح ان الحاكم بالإنابة وسيم منصوري رسم “معادلة الشفافية”، وحضّ القوى السياسية على اقرار الاصلاحات، ومنع المسّ بما تبقى من اموال، فأوقف الهدر الذي كان سارياً عبر تمويل الدولة، وثبّت الاستقرار النقدي من دون تكاليف، وهو يحاول الانصاف في تعاميمه، لكن المسؤولين في “المركزي”، المعنيين بالقطاع المصرفي تحديداً، فشلوا في تهيئة الارضية لأي حلول مقترحة. يبرز هنا دور رئيسة لجنة الرقابة على المصارف ميّا دبّاغ، التي ساهم “اسلوبها السلبي” في ابقاء عجز القطاع المصرفي، لا بل ان “سوداوية طروحاتها” توحي وكأن اجندة دبّاغ هي فرط القطاع المصرفي، وبالتالي سحق آمال المودعين، واعلان العجز الكلّي عن الحلول. لم تستطع دبّاغ ان تقوم بخطوة واحدة على طريق الانقاذ، مما طرح اسئلة عن مشروعها: هل مهمتها فرط القطاع المصرفي نهائياً؟ هل تسعى لانهاء ما تبقى من اموال المودعين، من خلال ضرب المصارف التي اودعوا فيها؟ هل يتكامل دورها مع دور دياب الذي عيّنها، بضرب اسس القطاع المصرفي اللبناني، ترجمة لأجندة مجهّلة؟ ما هو السبب لبقاء سلبية دبّاغ التي تكبّل الطروحات في سدّة مسؤولية حسّاسة جداً، يمكن عبرها للجنة الرقابة على المصارف تقديم مشاريع حلول، ووضع تصورات بنّاءة، والارتكاز الى الرؤية المستقبلية المفقودة عندها؟ لم يرصد المعنيّون خطوة ايجابية واحدة، او طرحاً بنّاء في عمل دبّاغ.
يقوم “المركزي” بخطوات لمواكبة القطاع، وتعيين مديرين موقتين لمصارف مأزومة، آخرها “الاعتماد المصرفي”، وهو المصرف الأبرز بين الاربعة المأزومة، كونه من فئة “الفا بنك”، فأصدر منصوري قراراً جريئاً بتعيين محمد بعاصيري لإدارته، وتصحيح اعوجاجه. لدى بعاصيري مسار طويل من العمل المصرفي: كان نائباً للحاكم السابق، وتولّى رئاسة لجنة الرقابة على المصارف، ورئاسة هيئة التحقيق الخاصة.
يتحدث المصرفيون وخبراء المال عن بعاصيري الذي يتمتع بعلاقات مالية دولية مفيدة للبلد سبق لها ان سحبت لبنان من اللائحة السوداء. ولكن هل ينجح بعاصيري في مهمته الاخيرة، بعدما ارسى نموذجاً ناجحاً في مهمته في “جمّال بنك”، بتسديد الودائع كاملة؟
يُنتظر من بعاصيري ان يشكّل نموذجاً في تحديد الخسائر لمصرف اساسي، والاضاءة على الهدر، واعادة اموال إختُلست من المصرف المذكور. وفي حال نجح في تلك المهمة، فإنّ الواجب يقضي بتعميم تجربته، حيث تُفترض المعالجة المصرفية.
تلك الخطوات اساسية، على الشكل الآتي: ادارة سليمة للبنوك المتعثّرة. تعاون المصارف مع تعاميم “المركزي”. طروحات مستقبلية بنّاء وايجابية لهيئة الرقابة على المصارف. استمرارية في الأداء الحالي لحاكمية “المركزي”.
بالتوازي، اقرار القوانين لاعادة هيكلة القطاع المصرفي، وتحديد الفجوة المالية وحجم الخسائر، وسبل اعادة اموال المودعين.
بالانتظار، فإن الثابت الوحيد هو أنّ كلّ تأخير في طرح الحلول الجذرية تتراكم معه الأضرار البالغة على الاقتصاد اللبناني، المُنهك اساساً، وعلى القطاع المصرفي، وتاليا على اموال المودعين.