إعلان سقوط النظام الاقتصادي العالمي القديم
(البيان)-08/05/2025
هل يتمنى المراقبون الخارجيون انتهاء الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين؟ إن الكثيرين منهم يأملون خسارة الطرفين معاً، فمن المؤكد أن نهج دونالد ترامب، الذي يتجاوز كونه غير متماسك فكرياً، يقوّض أي نظام عالمي قائم على التعاون. وعلى الرغم من أن البعض يرى في انهيار هذا النمط من «العولمة» أمراً مستحباً إلا أنني أرى أنه من الحماقة أن نتصور عالماً تديره «قوى عظمى» متنافسة أفضل من الوضع الراهن، لذا بينما يجب ألا تنتصر الحمائية، التي يتبناها ترامب يجب أيضاً ألا تستمر السياسات التجارية الصينية الحمائية، لأنها تخلق بدورها تحديات عالمية جسيمة.
ومن أجل فهم المشكلات التي تحيق بالعالم من المهم أن نبدأ من منطلق «الاختلالات العالمية»، التي نوقشت كثيراً قبل الأزمة المالية العالمية والأزمة المالية لمنطقة اليورو بين عامي 2007 و2015. وانحسرت هذه الاختلالات في الأعوام التي أعقبت هذه الأزمات، غير أن المشهد الكلي لا يزال على حاله. وبحسب إشارة صندوق النقد الدولي في تقرير التوقعات الاقتصادية العالمية الأخير فقد سجلت الصين والدول الأوروبية الدائنة (خاصة ألمانيا) فوائض مستمرة، في حين سجلت الولايات المتحدة عجزاً في المقابل. ونتيجة لذلك سجل صافي المركز الاستثماري الدولي للولايات المتحدة -24 % من الناتج العالمي في 2024، وتعاني الولايات المتحدة عجزاً مزدوجاً، ويقصد به العجز التجاري وعجز الحساب الجاري، ولديها ميزة نسبية في قطاع الخدمات، إلا أنها تعاني عجزاً كبيراً في التصنيع أيضاً.
لقد كانت الولايات المتحدة محظوظة بأن ظلت قوة عظمى بصورة تتخطى قدراتها طوال عقود، لكن هذه ليست مشكلة، فلا أحد سيكون قادراً على إجبار الولايات المتحدة على سداد التزاماتها. كما أن الولايات المتحدة لديها طرقها، الجيد منها والسيئ، للتخلّف عن السداد. ويُعد التضخم، وخفض قيمة العملة، والتقييد المالي، وحالات الإفلاس الجماعية للشركات، من بين هذه الطرق.
ومع ذلك يمكن للمرء رؤية 3 ثغرات في هذه النظرة المتساهلة بشأن الاختلالات العالمية الكبيرة والمستمرة. تكمن الثغرة الأولى في أن الولايات المتحدة صارت سامة سياسياً خاصة مع إعادة انتخاب دونالد ترامب رئيساً، أما الثانية فإنه توجد على جانب الفائض تدخلات صفرية المحصلة مُصممة لتغيير التوازن العالمي للقوة الاقتصادية. وفي حين لا تعتمد العلاقات الدولية حصراً على القوة الاقتصادية إلا أن هذه الأخيرة تمثل جزءاً مهماً منها.
وتكمن الثغرة الثالثة في أن المقابل للعجز الخارجي يميل إلى أن يكون اقتراضاً محلياً غير مستدام. وعند اقترانه بهشاشة مالية يمكن لهذه الأخيرة أن تؤدي إلى أزمات مالية كبيرة، مثلما حدث بين عامي 2007 و2015. وتُعد أرصدة الادخار والاستثمار القطاعية مؤشرات كاشفة عن حجم هذا التحدي الأخير، فقد واصل الأجانب تحقيق فائض كبير في المدخرات مع الولايات المتحدة طوال عقود، كما تتمتع الشركات الأمريكية إما بالتوازن وإما تحقيقها فائضاً منذ أوائل عام 2000، كما تمتعت الأسر الأمريكية بفائض منذ عام 2008. وبما أن الأرصدة القطاعية يجب أن تُضاف إلى الصفر فقد كان المقابل المحلي لعجز الحساب الجاري الأمريكي عجزاً مالياً مزمناً.
وإذا كانت أسعار الفائدة الحقيقية مرتفعة، فربما كان العجز المالي هو العامل الدافع وراء العجز الخارجي المزمن، لكن العكس صحيح، إذ لم تكن أسعار الفائدة الحقيقية منخفضة أو شديدة الانخفاض. وتبدو هنا الفرضية الكينزية صائبة، فتدفقات صافي المدخرات الأجنبية، وما يتبدى في فوائض الحساب الرأسمالي (وكذلك عجز الحساب الجاري) جعلت من العجز المالي الكبير أمراً ضرورياً، لأن الطلب المحلي في الولايات المتحدة كان ليصبح ضئيلاً على نحو مزمن.
ولا تعد الصين الطرف الوحيد على الجانب الآخر من الميزان العالمي، لكنها الأكثر أهمية في هذا الجانب. ومن وجهة نظري فإنه من الصواب القول، إن الاقتصاد العالمي لا يمكنه استيعاب اقتصاد مهول يبلغ فيه استهلاك الأسر نسبة 39 % من الناتج المحلي الإجمالي، وتبلغ فيه المدخرات، وبالتالي الاستثمارات، نسبة كبيرة على نحو مماثل، والواضح أيضاً أن هذه الأخيرة أسهمت في الدفع بما تعتبره «روديوم غروب» سياسة ناجحة تُدعى «صنع في الصين 2025»، ولا شك في أن القوى الصناعية الحالية خائفة من هذا العملاق الصيني.
يعيدنا هذا من جديد إلى السؤال المطروح: من سينتصر في الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين؟ لقد جادلت بأن الصين ربما ستكون هي من سينتصر، ويعود ذلك جزئياً إلى أن الولايات المتحدة جعلت من نفسها غير جديرة بالثقة تماماً، ويعود جزئياً أيضاً إلى تمتع الصين بإمكانية زيادة الطلب المحلي، بما يمكّنها من تعويض الطلب الأمريكي المفقود، وكان رد ماثيو كلاين في مدونته «ذا أوفرشوت» متمثلاً في أن الصين لطالما كان لديها هذه الإمكانية، لكنها أخفقت في استغلالها. أما ردي فهو أن الصين عليها في الوقت الراهن أن تفعل ذلك، ومن ثم ستختار توسيع الطلب بدلاً من السماح بركود محلي مهول، وستخبرنا الأيام بما سيحدث في هذا الصدد.
ونتيجة الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين والتطور المحتمل لتعريفات ترامب التجارية هي الأسئلة التي تفرضها الساعة. ومع ذلك ينبغي عدم تجاهل المشكلات الأكبر، كما يجب ألا نصدر الأحكام على السياسة التجارية بمعزل عما سواها من مسائل. ومثلما أدرك هؤلاء الذين أسسوا النظام التجاري بعد الحرب العالمية الثانية، ومن أبرزهم كينز ذاته، فإن نجاح هذا النظام يتوقف على تكيف الاقتصاد الكلي العالمي، إلى جانب التكيّف مع كيفية عمل النظام النقدي الدولي.
لقد حققت الولايات المتحدة فوائض هائلة في الحساب الجاري في الفترة، التي أعقبت الحرب العالمية، لكنها أعادت تدويرها على هيئة قروض. وبعد ذلك، وحتى عام 1971، تآكلت الفوائض الأمريكية، ما أدى إلى نهاية ربط الدولار بالذهب، وتعويم عام للعملات، وتبني نظام استهداف التضخم. وحقق هذا النظام نجاحاً بما يكفي قبل الصعود السريع للصين، ومع هذا الصعود صارت الحقبة، التي كانت فيها الولايات المتحدة مقترضة ومنفقة كملاذ أخير، وهي التي اختبرتها كل من اليابان وألمانيا في ثمانينيات القرن الماضي، غير قابلة للاستمرار سياسياً واقتصادياً.
وتتسم عدم القدرة على التنبؤ بتصرفات ترامب وتركيزه على الاتفاقيات الثنائية بالحماقة بكل تأكيد، لكن النظام الاقتصادي الذي قادته الولايات المتحدة أصبح الآن غير مُستدام. لن تكون الولايات المتحدة بعد الآن وجهة الملاذ الأخير لحفظ التوازن، لذلك يتعين على العالم أجمع، خاصة الصين وأوروبا، إعادة النظر في ذلك من جديد.